عاممقالاتمقالات فكرية

المصطلح وتعدد المفاهيم   ( العقل)

أ. محمد خليفة

مفكر ليبي

يؤثر عن الجابري قوله “التفكير في العقل… أسمى … من التفكير بالعقل”! والتفكير في العقل بحسب طرابيشي هو التفكير في “إله الفلاسفة الذي يريدونه بقوة العقل ملزمًا للجميع بالتعارض مع إله الدين الذي لا يُلزم سوى أتباعه”!

عبارة ناقد نقد العقل العربي تصريح بما جاء في عبارة ناقد العقل العربي من تلميح. وفي هذه يتجاوز طرابيشي الجابري في موضوع يقتضي أن يكون التصريح فيه من الجابري بحسبه إنسان لا يجعل مع الله إله آخر (مسلم) وليس من طرابيشي الذي لا إله له غير العقل. اخفاق المسلم دفع طرابيشي إلى الصراحة في موضع اكتفي فيه المسلمبالتلميح إيثارًا للسلامة، أو تجاوزًا لتعقيدات تأليه العقل.

وتأليه العقل هو مذهب طرابيشي الذي لم يعلن عنه صراحة وإن ذهب في هذا الاتجاه بوضوح عند نقده لنقد العقل العربي، في أكثر من موقع وفي فقرات سأعود إليها فيما بعد. لكن لنبدأ الآن الحديث عن تعدد مفاهيم العقل لندرك أن وحدانية المصطلح تتبخر مع دخوله في توصيفات من نوع “العقل الكلي” و”العقل الكوني. لذا وجب الكشف عن تعدد مفاهيم العقل إنقاذًا لعقيدة المسلمين، أو حتى لا نجعل مع الله إله آخر اسمه“العقل”، وهو ليس شيئًا في الحقيقة سوى الهوى.

أولاً. العقل الكلي.

هذا المفهوم للعقل لا يمكن استيعابه إلا ضمن فكرة وحدة الوجود باعتبارها العمود الفقري للفكر الغربي. وفي فلسفة وحدة الوجود العقل هو قطب الرحى، من أيام الإغريق إلى يومنا هذا. وجوهر فكرة وحدة الوجود، ومن أقصر الطرق كما عند ابن خلدون هوأن الباري تعالى متحد بمخلوقاته في هويته ووجوده وصفاته، وربما زعموا أنه مذهب الفلاسفة قبل ارسطو، مثل افلاطون وسقراط… وهذا الاتحاد هو الحلول الذي تدعيه النصارى في المسيح..! ويقتضي ما سلف التفرقة بين فكرة وحدة الوجود عند الفلاسفة (العلمانيين) وذات الفكرة عند الضالين من “أهل الكتاب.  

الفيلسوف الإغريقي الذي تحدث عن وحدة الوجود، انطلاقًا من مركزية العقل فيها، هو أناكساغوراس الذي ذهب إلى أن العقل هو الذي نظم كل شيء وأنه العلة لكل الأشياء! وشرحًا لهذا المجمل الذي مختصره “العقل يحكم العالم” يقولأناكساغوراس: العقل هو الذي بث النظام في جميع الأشياء التي وجدت والتي توجد الآن والتي سوف توجد، وكذلك هذه الحركة التي تدور بمقتضاها الشمس والقمر والهواء والاثير المنفصلين عنها”.

فكرة وحدة الوجود التي اتخذت منحى العقل-الإله في شقها العلماني، أخذت منحى المسيح-الإله في شقها الديني. وسواء قيل إن العقل هو الله أو المسيح هو الله فالمرجعية الفكرية واحدة وهي “وحدة الوجود”. وقطب الرحى في هذه الفكرة هو “العقل”: تأليه المسيح جاء من تحكيم النصارى للعقل سيرًا على نهج الإغريق واستعارة أو مصادرة لبعض أفكارهم ومن أهمها فكرة اللوغس Logos، الأمر الذي جعل هذا المصطلح الذي ظهر خمسمائة سنة قبل الميلاد يصبح أسمًا للمسيح بعده.

والسير على ذات النهج (= تحكيم العقل على حساب النقل) قاد بعض المسلمين إلى الزندقة. ولا ينبغي أن ننسى مهما نسينا في هذا السياق، أن بعض الزنادقة كانوا من المنتسبين إلى أئمة العقلانية في العصر العباسي (المعتزلة). وهذه أمور شرحتها في بعضمما كتبت سابقًا، ولن اتوسع فيها أكثر مما سلف، وما سأتوقف عنده الآن هو العودة إلى تأليه العقل من جديد في عصر النهضة الأوربية، حيث عادت فكرة وحدة الوجود إلى شكلها العلماني بعد استرجاع أوربا تراثها الإغريقي من المسلمين ابتداءً من القرن الثالث عشر.

في سنة 1198م توفي ابن رشد وفي سنة 1228م كانت كتبه تدرس في باريس، ثم منعت سنة 1277! والسر في منع تدريس ابن رشد هو المنظمة العالمية للصد عن سبيل الله (الكنيسة) التي مثلها في حينها ألبير الكبير (1200-1280) وتلميذه توما الاكويني (1225- 1274). وبالرغم مما سلف ظهرت “الرشدية” كمدرسة لفلسفة ارسطو في أوربالقرون عدة.

ومع القرن السابع عشر، وتأسيسًا على أخذ أوربا المنجز الإسلامي دون الإسلام، عادت فكرة وحدة الوجود للظهور على يد سبينوزا ونظريته عن “الطبيعة الطابعة” و”الطبيعة المنطبعة”: الطبيعة الطابعة خالقة والطبيعة المنطبعة مخلوقة! والطبيعة عند سبينوزا لم ترسل رسل ولم تنزل كتب، وليس هناك بعد ذلك إلا العقل الذي بدأ يفارق الكنيسة متجهًا نحو العلمانية على أساس الفلسفة الإغريقية والقانون الروماني. الكنيسة التي رفضت الإسلام لفظها العقل الأوربي لمفارقتها للعقل! ذاك الفراق دشنته الكنيسة بفرضالإيمان بمبدأ ثالث ثلاثة دون فهم، أي دون عقل.

في القرن التالي (الثامن عشر) جاء هيجل ليضع نظرية الدولة على أساس قوة “العقل-الإله فقرر إن “أساس الدولة هو قوة العقل الذي يحقق ذاته كإرادة، وانتهي إلى أن الدولة هي الله، وكما يظهر مختصرًا في عباراته الأتية.

The basis of the state is the power of the reason actualizing itself as will.

In considering the Idea of the state… we must consider the Idea, this actual God, by itself.

وبانتهاء هيجل إلى أن الدولة هي الله، تكون فكرة وحدة الوجود قد أكملت الدائرة وانتهت إلى حيث ابتدأت: (وثنية-علمانية)! وبهذا القدر حلت الدولة التي تمثل العقل-الإلهمحل الكنيسة التي تمثل المسيح-الإله! هذه هي فلسفة هيجل بعد سبينوزا، ومجمل ما يسمى “الأنوار” والعقلانية” في أوربا. وهذه التطورات التي غزت العالم لا تعد عقلانيةً على الإطلاق من وجهة نظر إسلامية، لأن ما حصل في الواقع هو تعاقب الآلهة في عالم تعدد الآلهة (أوربا)!

ثانيًا. العقل الكوني.

ويقصد به المشترك الإنساني، عقل كل إنسان أو كل الناس. وقد اختاره ناقد العقل العربي (الجابري) تمييزًا له عن “العقل الكلي” أو إله الفلاسفة بعبارة طرابيشي. وما أراد الجابري قوله هو إن المشترك الإنساني (العقل الكوني أو العالمي بعبارة أخرى) شيء مختلف عن العقل الكلي الذي يرفعه الفيلسوف الأوربي إلى مقام الألوهية! وما أراد الجابري نقده في هذا السياق هو العقل الكوني عندما يتحدث العربية.

قسم الجابري العقل العربي إلى بيان ينتج معرفة بيانية، وبرهان ينتج معرفة برهانية، وعرفان ينتج معرفة عرفانية. وبينما اعتقد الجابري أن العقل العربي لا يكون برهانيًا إلا إذا تخلص من العرفان اعتقد طرابيشي أن العقل العربي لا يكون برهانيًا إلا إذا تخلص من البيان. وسأورد النص الذي يبين موقف طرابيشي لأعود إلى جوهر المعركة بينه وبين الجابري بعد ذلك.

في كتابه العقل المستقيل في الإسلام، وفي الهامش رقم 132 في الصفحة 94 يعرّف طرابيشي البرهان على أنه “حرية العقل في ممارسة فاعليته بالاستناد إلى مرجعيته الذاتية وسلطته الخاصة“، ويعرف البيان على أنه “فاعلية تأويلية تقيد نشاط العقل بنص مقدس، أو بنص مرفوع إلى درجة القداسة“. ويعتقد طرابيشي إن الجابري إن لم ينبذ البيان يكن عقله ومفاهيمه بيانية وإن ادعى البرهان.بكلمات أخرى: حتى يكون الجابري برهانيًا كان عليه من وجهة نظر طرابيشي أن ينبذ النص المقدس أو المرفوع إلى درجة القداسة (= الوحي).

المعركة بين الجابري وطرابيشي كانت إذن حول البرهان. ومناسبة ما سلف من قول هو اعتقاد الجابري أن العرفان هو ما سبب استقالة العقل العربي، بينما اعتقد طرابيشي أن البيان له نفس الأثر. وهنا نكون إزاء سؤال من نوع: ما الذي سبب شلل العقل العربي؟العرفان كما في فرضية الجابري؟ أم البيان كما في فرضية طرابيشي؟

يعتقد الجابري أن تسرب العرفان إلى العقل العربي هو سبب الشلل، ولن يستعيد هذا العقل فعاليته إلا بنبذ العرفان والاعتماد على البرهان من طريق العقل الكوني، بينما يعتقد طرابيشي إن العقل العربي لا يمكن أن يكون عقلاً كونيًا فاعلاً إلا إذا تخلص من البيان وأصبح لوحده السلطة السائدة والحجة النافذة. وفي هذه الحالة -التي يشترطها طرابيشي- سيكون العقل إله، أو “إله الفلاسفة” حسب وصفه الذي أثبته في مقدمة هذا المقال، وهذا ما لا يتأتى للجابري إلا إذا جعل مع الله إله آخر اسمه العقل، وهو لا يريد ذلك، ولا يستطيع التصريح بذلك حتى إن أراد، وإلا فقد إسلامه.

وما ينهي الحيرة ويحسم الجدل بين جابري وطرابيشي هو نفي ألوهية العقل، لأن هذا النفي سيجعل من طرابيشي فيلسوفًا في العراء، بدون إله، لأن النفي انصب على إلههوهو “إله الفلاسفة”. وحيث لم يكن الجابري بهذا القدر من الصراحة والوضوح كان النفع من نقد العقل العربي ونقد نقد العقل العربي غير حاسم، وعلى المستوى المعرفي مجرد زوبعة في فنجان. ومع ذلك يحسب للجابري قوله “إن نقد العربي لن يكتمل إلا بإنجاز نقد العقل الأوربي“، وهذا ما حاولت، وما زلت أحاول القيام به في هذا المقال وفي غيره، تطويرًا للجدل وتأسيسًا لعصر الإسلام الثاني على نفي ألوهية العقل كما تأسس الإسلام الأول على نفي تعدد الآلهة (الأصنام).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى