عاممقالاتمقالات الرأيمقالات فكرية

المصطلح وتعدد المفاهيم ( العقلانية)

أ.محمد خليفة

* مفكر ليبي

أوربا أخذت منا العقلانية مسلمة في القرن الثالث عشر، وأعادتها لنا كافرة في القرن العشرين. المشترك بين العقلانيتين هو انتسابهما للعقل بما هو “المشترك الإنساني”، والاختلاف بينهما هو الاختلاف بين الحق والباطل، ولا سيما أن الحضارة الغربية تجمع وتساوي بين الحق والباطل، حتى أن حرية العقيدة عندها تشمل عبادة الشيطان، والتسامح يشمل زواج البشر من حيوانات.

ولما كان التفاهم بين المسلمين وغير المسلمين لا يكون إلا بالعقل، والمسلم لا يمكن أن يقبل كامل العقلانية الغربية إلا بعد إلغاء عقله، فيكون من مصلحة المسلم إذن أن يعرف الفروق الجوهرية بين العقلانية المسلمة والعقلانية الأوربية-الغربية التي بنت النظام العالمي السائد، ومازالت تعمل على فرض شروطه وشروره علينا بأي ثمن.

أولاً. العقلانية المسلمة.
العقلانية المسلمة مركبة على قاعدتين؛ الأولى تتعلق بوظيفة العقل في الإسلام والحضارة الإسلامية، والثانية تقول: كل من يُعمل عقله ويستعن بالله يدخل الإسلام. والنتيجة المنطقية لقلب هذه الفرضية هي أن سبب عدم اسلام من لم يسلم يمكن أن يكون إما: 1) تعطيل العقل، أو 2) الاعتماد على العقل وحده، والاستغناء عن توفيق الله. وفيما يأتي تفصيل لما سلف مجملًا.

أ‌) وظيفة العقل في الإسـلام.
ما يلفت الانتباه في القرآن هو أن عاقبة عدم الايمان وعاقبة تعطيل العقل واحدة. في سورة الأنعام يجعل اللهُ الرجس على الذين لا يؤمنون”. وفي سورة يونس: “ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون”.

العقل في القرآن فعل وممارسة، وليس مجرد مصطلح يستخدم جزافًا دون فعالية. وما انحطاط الناس إلا نتيجة عطالة عقولهم: “أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها…”؟ ويبدو لي إن ارتباط العقل بالقلب هو المتضمن في قوله تعالى: “وأما الذين في قلوبهم مرض فزادهم رجسًا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون”! من خلال آيات القرآن نرى كيف يتراكم في القلب رجس العقل العاطل والكفر المعلن!

ب‌) العقل ممارسة وفعالية.
المسلم عاقل ويعقل؛ عاقل بمعنى أنه مختلف عن العجماوات والمجانين، ويعقل بمعنى أنه يربط بين الاسباب والنتائج، ويبني بالتالي عقلانية أساسها أن العقل نعمة من الله، وأن في الإسلام تمام النعمة والسلامة في الدنيا والآخرة.

على مستوى العقل نعمة من نعم الله يقول ابن الجوزي : “أعظم النعم على الإنسان العقل، لأنه الآلة في معرفة الله سبحانه والسبب الذي يتوصل به إلى تصديق الرسل… ولما ثبت عند العقل أقوال الأنبياء الصادقة بدلائل المعجزات الخارقة، سلم إليهم واعتمد فيما يخفى عليه عليهم”.

التسليم للرسل فيما تعلق بالغيب هو نتيجة إعمال العقل السليم، وفي هذا يقول الشاطبي: “إن الله جعل للعقول في ادراكها حدًا تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلاً إلى الادراك في كل مطلوب، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري…”.

وما يحول العقيدة إلى شريعة هو التسليم للرسل، فالإسلام شريعة تحكم النظر والعمل معًا. والشريعة تفرض حدودًا على النظر حتى لا يصبح الهوى إلهًا باسم العقل أو باسم التحسين والتقبيح، لأنه: “لو جاز للعقل تخطي ما حده النقل… صار الحد غير مفيد، وذلك في الشريعة باطل، فما أدى إليه مثله.”

والحدود التي حدها النقل جمعها النبي عليه الصلاة والسلام في حديث واحد يقول فيه: “إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها”. وبذا يكون عقل المسلم عقلاً اجتهاديًا في المسكوت عنه، لا يغير شيئًا في الفرائض والحدود والحرمات، وإلا كان الجهد فسوقًا وعصيانًا وليس اجتهادًا بالمعنى الشرعي للمصطلح. العقل نعمة والإسلام تمامها لكن أكثر الناس لا يعلمون. ومن الذين لا يعلمون أبناء المسلمين الذين تركوا العقلانية المسلمة واتبعوا عقلانية غير المسلمين.

ثانيًا. العقلانية الكافرة.
في سنة 1198 توفي ابن رشد، وبعد ربع قرن (بين 1225-1230 تقريبًا) كانت كتبه في الطب والفلسفة تدرس في جامعة باريس بعد أن تُرجمت. وفي هذه الحقبة ولد أحد الذين اشتغلوا بالصد عن سبيل الله بقوة وغزارة مؤلفات، وهو القديس توما الاكويني (1225-1274). وبعد نصف قرن تم تحريم تدريس فلسفة ابن رشد في باريس (سنة 1277).

وكان ذاك التحريم أثر من أثار المشتغلين بالصد عن سبيل الله وعلى رأسهم توما الاكويني، الذي دارت كل كتابته حول الكفر بمحمد وما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، غير أن عامة المسلمين لغفلتها عن أهمية تاريخ الأفكار، وذهولها عن الصراع الفكري حول المتوسط، لا ترى أن كفر الاكويني بابن رشد متفرع عن كفره بمحمد وما انزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تدر أن ما قام به كان صدًا عن سبيل الله ومن الوظائف الدائمة للكنيسة ورهبانها.

وهنا بدأ التاريخ الأوربي يسير إلى الوراء فبدل أن تدخل أوربا الإسلام وتسير إلى الأمام توجهت إلى الخلف وسارت إلى الوراء، إلى الفلسفة الاغريقية بدون الاسهامات الإسلامية التي تحاشاها المترجمون. وظهرت تبعًا لذلك مدرسة في طول أوربا وعرضها باسم “الرشدية اللاتينية”، وكانت قائمة على دراسة ارسطو كما استخلص من كتابات ابن رشد دون الإسلام.

وكان من نتيجة ذلك مسخ فلسفة ابن رشد وقلب “ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” إلى انفصال سمي في أوربا “الحقيقة المزدوجة” ونسب القول بالحقيقة المزدوجة لابن رشد، وهو منها براء. إذ شهدت الموسوعة البريطانية أن “الحقيقة المزدوجة” من اختراع الرشديين اللاتين، ولا علاقة لها بابن رشد، الذي يقول “الحق لا يضاد الحق” و”الحكمة صاحبة الشريعة واختها الرضيعة”.
كان ابن رشد في الواقع نهاية مسيرة طويلة استلمت فيها الحضارة الإسلامية الفلسفة الاغريقية لتطورها وتحتفظ بها، بين القرن الثامن والقرن الثالث عشر حيث استعادتها أوربا من طريق الترجمة التي نفذتها المؤسسة المتخصصة في الصد عن سبيل الله (الكنيسة). وكان توما الاكويني أحد الذين خلصوا فلسفة ارسطو من فلسفة ابن رشد، وليضع الكتاب المقدس حيث وضع ابن رشد القرآن نبذًا للإسلام وصدًا عنه. وهنا كانت أوربا على موعد آخر من المنجز الإسلامي كما حققه ابن حزم الذي دشن الدراسات النقدية للكتاب المقدس وما فيه من تحريف وأساطير أو خرافات مضافة. وهو ما عُرف لاحقًا بـ”نقد النص”.

بدأ ابن حزم بنقد “ثالث ثلاثة”، ومن جانب عقلي يقوم على “مبدأ الهوية وعدم التناقض”، لأن القول بأن الله واحد وثالث ثلاثة مخالف لهذا المبدأ لشموله الوحدة والتعدد في نفس الوقت! وينتهي ابن حزم إلى أن هناك أكاذيب “في الكتاب الذي تسميه اليهود التوراة، وفي سائر كتبهم، وفي الاناجيل الأربعة، يتيقن بذلك تحريفها وتبديلها، وأنها غير الذي أنزل الله عز وجل”. ويؤكد ابن حزم على أن انجيل يوحنا “أعظم الاناجيل كفرًا، وأشدها تناقضًا، وأتمها رعونة”، أما رسائل بولس وهي مما يسمى “أعمال الرسل” عند النصارى فقد وصفها ابن حزم بأنها “مملوءة حمقًا ورعونة وكفرًا”.
وكان نقد ابن حزم شاملاً ومفصلاً بشكل مذهل، حتى أن نقاد التوراة والانجيل في اوربا اعتمدوا عليه -في عصر النهضة- إلى درجة الاقتباس المباشر، ولكن دون ذكر المرجع خوفًا من ردة فعل المشتغلين بالصد عن سبيل الله. وبعد الفراغ من نقد التوراة والانجيل طفق بعض المستشرقين يطبقون المنهج لتكذيب القرآن.

ومن بعد انتقل منهج تكذيب القرآن من المستشرقين إلى بعض أبناء المسلمين، وكان من أولهم طه حسين الذي شكك في وجود إبراهيم عليه السلام رغم ذكره في القرآن، وآخرهم سيد القمني الذي أراد تصنيف الازهر منظمة إرهابية، وحرض العالم على زيادة الإسلام-فوبيا. وبذا أعادت إلينا أوربا العقلانية كافرة في القرن العشرين، بعد أن استلمتها منا مسلمة قبل سبعة قرون. وكانت البعثات التعليمية من القنوات التي عادت منها العقلانية كافرة، ليشارك أبناء المسلمين بفعلها في الحرب على الإسلام وفي “دار الإسلام” التي تحولت إلى دار حرب على الإسلام. ولم يدرك الغافلون بعد أن دار الإسلام ودار الحرب على الإسلام أصبحت واحدة، بفعل هيمنة العقلانية الغربية على القرية الكونية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى