عاممقالاتمقالات فكرية

المصطلح وتعدد المفاهيم

   (لوغس Logos)

أ. محمد خليفة

  • مفكر ليبي

هناك فرضية تقول إن مفردة “لغة” العربية أصلها مفردة “لوغس” الإغريقية. ومما يمكن أن يستدل به على صدق الفرضية حديث القرآن في أكثر من موقع عن اللسان وليس اللغة، من قبيل قوله تعالى عن القرآن: “نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين” وقوله عن آيات الله في خلقه: “ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم…“.

وبالرغم مما سلف يقلب جورج طرابيشي الفرضية ليقول إن مفردة لوغس الإغريقية أصلها مفردة “لغة” السامية، إن لم تكن العربية. ومن عجب أن تصبح فكرة اللوغس التي ظهرت خمسة قرون قبل الميلاد اسمًا للمسيح بعد ميلاده. واهتمامي بالفكرة ليس من باب البحث في عجائب المفردات، بقدر ما هو تأصيل للأفكار والمفاهيم في سياقاتها التاريخية المتعددة، قصد اطلاع القارئ على آثارها في الفكر الإنساني والفكر الإسلامي جزء منه، بطبيعة الحال.

ومثلما دخل المصطلح دائرة الفكر المسيحي وأثر فيه، دخل دائرة الفكر الإسلامي وأثر فيها، بالرغم من أنه سابق على ظهور المسيحية والإسلام. ولذا سأبحث على التوالي في المفهوم الإغريقي لمصطلح اللوغس باعتباره الأصل التاريخي، ثم تطورات المفهوم في الفكر المسيحي، ثم تقلبات المفهوم في الفكر الإسلامي، وعلى ما بين مدارات الفكر الثلاث من اختلاف.

أولاً. لوغس الإغريقي.

يعد سقراط اللحظة الفارقة والشخصية الفارقة في الفلسفة الإغريقية. ومعنى فارقة أن هناك ما قبل سقراط وهناك ما بعد سقراط. ما قبل سقراط السفسطائيون، وما بعد سقراط افلاطون وارسطو. مصطلح لوغس ولد في حقبة ما قبل سقراط، وفي فكر هيراقليطس، خمسمائة سنة قبل الميلاد.

وللمصطلح تاريخ طويل وتقلبات كثيرة سببها تعدد معانيه، الأمر الذي يجعله متعدد المفاهيم في الحقب المختلفة والحضارات المختلفة. على مستوى اللغة يعني مصطلح لوغس: كلمة وعقل وعلم وحساب ومنطق. وما سأركز عليه هنا هو “كلمة” و”عقل”باعتبارهما من أهم المفاهيم التي يعكسها مصطلح اللوغس.

إذا بدأنا بمصطلح كلمة وقلنا “زيد ألقى كلمة” فالمعنى أن زيد لم يتفوه بكلمة واحدة، وإنما تحدث لبعض الوقت مستخدمًا الكثير من الكلمات الموجهة للحاضرين. من هنا يمكن تصور أن مصطلح “كلمة” يمكن أن يعني الكلام الكثير وليس كلمة واحدة فقط، وكما سنرى في الحقبة الإسلامية حيث ظهر “علم الكلام”. لكن في السياق المسيحي أضيفت ألف ولام التعريف ليصبح مصطلح “الكلمة” ويطلق على المسيح تحديدًا.

وما سلف يوصلنا إلى دور اللوغس في المسيحية بسبب التشابه بين “عيسى كلمة الله” ومصطلح لوغس بمعنى “كلمة” في الفكر الإغريقي. وهذا من نتائج اختلاط المسيحية بالفلسفة الإغريقية ابتداءً من الإسكندرية التي كانت عاصمة التقاء الوحي بالفلسفة عند بعثة المسيح: (الفلسفة الإغريقية التقت بالتوراة قبل الميلاد والتقت بالإنجيل بعده).

ثانيًا. لوغس المسيحي.

إذا استعرضت قائمة القنوات الفضائية فستقابلك محطة أسمها Logos tv. وإذا فتحت هذه المحطة فستجد فيها بعض أقباط مصر الذين يبثون باللغة العربية من لوس أنجلس. ومعنى أسم المحطة هو محطة المسيح على اعتبار أن المسيح هو اللوغس أو هو الكلمة!

ومن الاحداث التي لفتت الأنظار مؤخرًا رفض ميناء مصراتة استقبال سفينة أسمها “لوغس”، وهي مكتبة عامة تبيع الكتب. والحجة التي عللت بها سلطات الميناء رفض السفينة هو أنها سفينة تبشيرية تنشر أفكارًا مسيحية. لكن لما كانت العلاقة بين اسم السفينة ومهمتها المرتبطة باسم المسيح ومهمتها التبشيرية غير واضحة، أثار منع السفينة من دخول ميناء مصراتة موجة من الاستياء لأنه في ظاهره منع لسفينة تنشر العلم والمعرفة.

ولمثل هذه الأسباب والبلبلة المنتشرة في الأوساط الإسلامية سمح للسفينة بالدخول إلى ميناء بنغازي لتمارس مهمتها التبشيرية باسمها الذي لا يثير شبهة لدى الغافلين. ويعتمد التبشير عمومًا على الغفلة والسرية، حتى أن أحد حملة القرآن في مصراتة قد تنصر دون أن يعلم أحد كيف، أو متى، أو أين!

وبالإضافة إلى الغفلة والسرية يتعمد التبشير التلبيس؛ ومن أكثر أنواع التلبيس تأثيرًا على الناس تلبيس مصطلح لوغس لاسم المسيح ليصبح “الكلمة” وليس “كلمة” كما هو في الأصل. وهذا النوع من التلبيس يجعل الغافل يعتقد أن الكلمة واحدة وهي المسيح. وفي هذا السياق جاء في أنجيل يوحنا:في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله“. والمعنى كالآتي:

في البدء كان الكلمــة = في البدء كان عيسى،
وكان الكلمة عند الله = كان عيسى عند الله،
وكـان الكلمــة الله = كان عيسى الله!

  عيسى عليه السلام “كلمة الله”، وليس “الكلمة” بالألف واللام، كما تظهر في نص الانجيل! وهذا يمثل غفلة عن حقيقة أن كلمات الله لا حصر لها والمسيح أحدها: “ولو أن ما في البحر من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم“. إضافة الالف واللام يعطي انطباع بأنالمسيح هو “الكلمة” الوحيدة، في حين أن كلمات الله لا حصر لها. وهذا يوصلنا إلى دخول المصطلح دائرة الفكر الإسلامي بمعنييه “الكلام” و”العقل”.

ثالثًا. لوغس الإسلامي.

روى الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام” أن عبد الله بن زيد الفقيه سأل أحمد بن سعدي المالكي عند وصوله القيروان قادمًا من المشرق هل حضرت مجالس أهل الكلام؟ فقال ابن سعدي: “نعم مرتين، ولم اعد إليها. قال: لمَ؟ فقال: أما أول مجلس حضرته فرأيت مجلسًا قد جمع الفرق من السنة والبدعة والكفار واليهود والنصارى والدهرية والمجوس، ولكل فرقة رئيس يتكلم ويجادل عن مذهبه فإذا جاء رئيس قاموا كلهم على اقدامهم حتى يجلس، فإذا تكلموا قال قائل من الكفار: قد اجتمعتم للمناظرة، فلا يحتج أحد بكتابه ولا نبيه، فإننا لا نصدق ذلك ولا نعتد به، وإنما نتناظر بالعقل والقياس. فيقولون نعم. ولما سمعت ذلك لم أعد. ثم قيل لي: هذا مجلس آخر للكلام. فذهبت إليه، فوجدتهم على مثل سيرة أصحابهم. فقاطعت مجالس أهل الكلام.”

هذه القصة القصيرة تبين لنا العلاقة بين دخول الفلسفة الاغريقية لدائرة الحضارة الإسلامية وظهور علم الكلام في العصر العباسي. كما يتضح لنا أن مجالس الكلام تعتمد على العقل كمشترك انساني كحكم بين رؤى الأمم والحضارات المختلفة. وفي هذه المجالس تدافع كل ملة على عقيدتها.

وفي هذا السياق أصبح “علم الكلام” مرادف لمفهوم آخر هو “علم أصول الدين”، ويتعلق بعقيدة المسلمين وما يجب الإيمان به. لمثل هذه الأسباب عرف ابن خلدون علم الكلام على أنه: “علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذهب السلف وأهل السنة“. وجملة هذه القضايا وتعقيداتها هي ما لا يمكن ادراكه دون الإحاطة علمًا بتاريخ الأفكار، وهو التاريخ الذي لم يهتم به أحد من المسلمين -فيما أعلم- ومازالوا فيه عالة على من يلبس عليهم أو يوجههم إلى الخلف ليسيروا إلى الوراء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى