المعرفة حق طبيعي لكن ليس لكل إنسان
بقلم /عبدالله الشلماني
الحظ العاثر كعادته دائماً ألقى بي وسط مدينة بنغازي قادماً إليها من مدينتي مدينة المرج .. ليس للتنـزه وتمضية الوقت ، بل طلبا وبحثاًً عن أمر غير متوفر بالمرج على الرغم من أهميته المفرطة بالنسبة لي على الأقل .. ( طبيب عظام ) .. أتيت مبكراً أكثر مما يجب ، خوفاً من ضياع دوري في الطابور والناتج عن تأخري بسبب انفجار إطار الميكروباص الذي يقلنا كما حدث معي في المرة السابقة . لكن الحمدلله .. هذه المرة حرصت على المجيء في سيارة أجرة مرسيدس ( فيتو ) تسابق الريح .. إلى الدرجة التي كدنا معها أن نهلك جميعاً عندما عبر الطريق عند منطقة الكويفية حمار مستعجل هو الآخر أمام سائقنا الذي لا يقل استعجالاً عنا ولا عن الحمار . فهو يسابق الريح ليؤمن القسط الشهري من ثمن ( الفيتو ) للمصرف الريفي . وأنا أسابق الريح للوصول إلى طبيب العظام في الوقت المناسب .. ويبدو أن الحمار أيضاً يسابق الريح لأمر لا يعلمه إلا الله .. فللحمير أيضاً همومها وقضاياها .
المهم أنني وصلت مبكراً ووجدت الوقت أمامي ممتداً لساعات طوال .. اللعنة .. أثقل الأشياء على قلبي هو الإنتظار خصوصاً في عيادات الأطباء .. حيث الأحاديث بين المنتظرين تتمحور على الألم والمرض و ” عطابة ” الدكتور فلان و ” نزاكة ” الدكتور علان والإحتجاج على الممرضة التي تتحايل وتزور ” لتزريق ” معارفها في غير أدوارهم .. ماذا أفعل الآن ؟ حسناً سأذهب إلى دار الكتب الوطنية القريبة من المكان عسى أن أجد كتاباً يؤنس وحشتي ويرحم غربتي ويختصر الزمن بيني وبين طبيب العظام .. في الطريق كنت أفكر كيف أن هذه المكتبات وما على غرارها من المؤسسات تعتبر من النقاط والجوانب القلائل المضيئة في واقعنا المزري .. وكيف أنه من المفترض – لو كان هنالك من يحمل هم الوطن وأهله – أن تنتشر مثل هذه المرافق التي ترقى بمستوى الشباب بمشاريعها ومعارضها وأمسياتها الأدبية ومحاضراتها الفكرية .. آه يا دار الكتب الوطنية .. لو أن لي من يخيرني بين الأماكن للسكنى ما اخترت سواك مكاناً .. وفجأة أفقت من تخيلاتي وتفكيري على صوت شاب أنيق ومهذب يقف أعلى سلم الطابق الثاني للمكتبة معترضاً طريقي ليقول :
– عفواً يا أستاذ .. هل أخذت بطاقة اشتراك بالمكتبة ؟!
لاحظت أنه يشبك واحدةً في ياقة سترته المكوية بعناية .. أجبته :
– بطاقة ؟ لا لم أفعل .. ما الأمر ؟ وأين يمكنني أن أجد واحدة ؟
– عند المدخل يا أستاذ .. هناك سيعطونك واحدة .. لو سمحت ..
وابتسم لي ابتسامة دبلوماسية مشيراً بسبابته إلى الطابق الأرضي .. اتجهت محرجاً إلى حيث تشير سبابة الشاب الأنيق .. وهناك وجدت أحدهم – أقصد إحداهن – تجلس خلف درج للإستقبال فقصصت عليها خبري باقتضاب .. نسخت كامل جسدي النحيل من أسفله إلى أعلاه بنظرة ماسحة ( سكانر ) .. ثم سألتني :
– هل أنت طالب ؟
– لا ..!!
– هل أنت باحث ؟
– لا ..!!
– هل تنتمي لأية مؤسسة علمية أو مركز للبحوث أو هيئة للدراسات ؟
– لا ..!! أنا فقط مواطن ليبـي يريد أن يقرأ في كتاب يتشارك امتلاك الحق في قراءته مع بقية الستة ملايين ليبـي .. أنا متخرج من الجامعة منذ زمن ولست طالباً .. ولا أنا باحث ولا شيء ..
أثار فيها كلامي شيئاً من الحنق .. أجابت :
– آسفة .. يتوجب عليك لكي تدخل وتقرأ أن تكون طالباً أو باحثاً أو على الأقل في زيارة إلى طالب أو باحث ..
في الأثناء تداعى إلى ذاكرتي مشهد الإنتظار في العيادة .. وفي مقارنة سريعة في مخيلتي تبين لي بوضوح أن الإنتظار في العيادة أرحم .. فهي لاتحتاج إلى بطاقة اشتراك .. مثلها في ذلك مثل جميع الأماكن التي يرتادها ( الغلابة ) من أمثالي .. طابور العيادة .. طابور الفرن .. طابور الوقود .. طابور المصرف .. طابور بوابة المرور ..
خرجت محرجاً ومحبطاً قاصداً العيادة .. و فور خروجي من باب المكتبة رأيت أمامي عبارة مكتوبة على لافتة عملاقة أعلى المبنى وددت لو أنني أوفق إلى التعرف على من أصدر الأوامر بشأن بطاقة الإشتراك لكي ألتقط له صورة فوتوغرافية تجمعني به في ظلها .. لقد كتبوا على تلك اللافتة ( المعرفة حق طبيعي لكل إنسان ) ..!!؟؟