مقالاتمقالات تربوية

المقاصدُ الخاصّة للصّيام … الطّريق إلى التّقوى

 

د.شيروان الشميراني

لا نريد النزول في تفاصيل تعريف المقاصد، فليس الغرض هنا الحديث في علم الأصول ومقاصد الشريعة حديثاً أكاديمياً، وإنما الحديث هو عن الأهداف والغايات التي وضعها الله سبحانه في صيام رمضان ولهذا نقتصر عليها، وعلى الانسان المسلم أن يوجه صيامه وطريقة تعامله معه في رمضان بما يحقق تلك الغايات، فالمقصد من الأساس هو الغاية التي جعلها الله جلّ جَلالُهُ في أمور الدّين كله من أجل تحقيقها في الحياة عبر الممارسات الإيمانية والسلوكية. وكلها قائم على إنعدام العبثية في أفعال الله و إستغنائه عن أفعال العباد، فكل أوامره ونواهيه هي لمصلحة البشر في حياتهم.

والمقاصد الخاصة تعني أنّ هناك مقاصد عامة كما أن هناك مقاصد كلية ” كالكليات الخمس، أو الست أو الثمان- عند البعض-“ومقاصد جزئية، فللدين مقاصد عامة تتحقق من خلال عموم الدين وتتعلق بالبشرية في عمومها، أي الممارسة الدينية الكلية للإنسانية بصورة جماعية تأتي بالتبع بالاهداف العامة المتوخاة منها، هذه الأهداف التي تؤثر على الجميع وليس طائفة معينة، لكنها تؤثر أيضا على الدوائر الصغيرة للتجمعات البشرية من مثل السلام والحرية والأمن والكرامة والمساواة وغيرها. أما المقاصد الخاصة فهي تلك التي وضعها الله تعالى في كل باب من أبواب الدين ولكل فروع وأغصان تشكل بجمعها الغاية العامة وإن كانت خاصة بالنسبة للدائرة الأوسع التي تحتويها، كالعبادات التي تدخل في دائرة حفظ الدّين وتدخل في حفظ المال والنفس والنسل والعرض، لكن لها مقاصد خاصة بها، وقد أفاض محمد الطاهر بن عاشور في كتابه ” مقاصد الشريعة الإسلامية” الحديث عن المقاصد الخاصة وخصص القسم الثالث من الكتاب لمقاصد التشريع التي تختص بأنواع المعاملات بين الناس. في داخل العبادات تأتي العبادات المُحَدَّدة كالصلاة والصيام والزكاة والحجّ ولكل منها مقاصدها الخاصة أيضاً، فَصَّل الإمام عزّ بن عبدالسلام في كتابه ” مقاصد العبادات” القول عن المقاصد العامة للعبادات الإسلامية وتلك الخاصة بكل عبادة منها على حِدة، أي أن للصيام مقاصداً وغايات تتناسب وطبيعته تختلف عن الغاية من الصلاة والتي هي من الأركان العبادية، فالصلاة كالصيام وضِعَت بعددها وشعائرها بما تحقق غايات محددة لا تتحقق بالصيام، وكلاهما يشاركان في تحقيق المقاصد من العبادات عند تكاملها، إذاً القصد هنا هو الغاية والأهداف الخاصة المرجوة حصولها من الصيام في رمضان، وضمن حكم رمضان هنالك أسرار تتعلق بالسحور مثلاً والتأخير والفطور والتعجيل فيه ولماذا صيام شهر كامل وأن يكون في النهار وليس في الليل.

لقد حدّد ربُّ العالمين “التقوى” كالغاية الأساسية من الصيام ” لَعَلَّكُمْ تَتَّقون”[ البقرة: 183]، والتَّقوى هي الحالةُ التي يعمل الانسان المسلم جاهداً الإتصاف بها والمرحلة التي يريد الوصول إليها، الحال التي يكون فيها أبعد عن الشر والفساد وأقرب الى الخير والصلاح، كما أمر الله المؤمنين بالتقوى للدخول في جنّات وعيون ” يا أيُّها الَّذين آمَنوا اتَّقوا الله”[ آل عمران: 102-/الحشر: 18]، وكتابه ” هُدىً للمُتَّقين” [البقرة: 2]، فتحديد التقوى كهدف الصيام دالٌّ على مركزيتها في وضع الصائم على الطريق الموصل الى الله، لكن إذا كان المؤمنُ مطلوبٌ منه الوصول إلى التقوى في كل أعماله العبادية فلابدّ أن يكون للصيام ما يختص به في هذا السعي.

يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام- فيما يرويه الشيخان :” إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فليُضَيِّقوا مسالكه بالجوع”، بالنظر الى الأسس التي يعتمدها الشيطان في حربه ضدّ الروح النفخة الإلهية، نرى أن الغرائز الجسدية ومشتهياتها هي الأسلحة الثقيلة في هذه الحرب، يستعملها الشيطان ويوسوس لبني آدم من خلالها، وفي رمضان يعمل الانسان المسلم بمرور الأيام وبتراكم الأثر على تجفيف هذه الينابيع عبر التقليل من مصادر التغذية الجسدية والتخفيف منها، وتحويلها الى الروح لتتقوى على نداءات الجسد، ليس من أجل كبتها وإستئصالها، وإنما من أجل إعادة التوازن وكبح الغريزة عند محاولتها الطغيان على الروح، فبالصيام يفقد الشيطان أسلحته الفتاكة، وينسحب من الميدان، وبهذا المعنى ورد أن الشياطين تُصَّفَدُ في رمضان، أيّ يَكونُ مُجَّرداً من كل سلاح في ساحة الحرب، فيكون المجال متاحاً ومهيئاً لتصفو النفوس وتسمو الروح، ويسموا الناس عن المشاغل الحيوانية السافلة، ويصنع الصيام فاصلاً بين الخلود إلى الأرض ومتطلباتها والدفع بالصائم نحو النظر والصعود إلى السماء.

يقول -الإمام سعيد النورْسي- :” أصبح الإنسان مكلفاً بالصوم لئلا يلج في الحاجات الحيوانية كالأكل والشرب من حاجات النفس بالغفلة، ولكي يتجنب الإنغماس في الشهوات والهوى”. و خصَّص -عباس محمود العقاد- فصلاً من كتابه ” حقائق الإسلام وأباطيل خصومه” للحديث عن العبادات الإسلامية، وعن الصيام يقول :” إن المسلم في صيامه يذكر حق الروح من شرابه وطعامه، ويذكر أنه ذو إرادة تأخذ بيديها زمام جسدها، ولا تترك لهذا الجسد أن يأحذ بزمامها [ زمام الروح] ويتصرف بها على هواه”، فهو تنبيه للضمير إلى هذه الحقيقة الحياتية، إمتحان للمسلم أمام حرارة الغريزة وقوة ما تهواه النفس من شهوات الفرج والبطن. بإنتصار الروح على الغريزة يكون الإنسان متّقياً، الصيام هو الطريق إلى التقوى، وهو ما جعل بعضاً من الصالحين تقديمهم الصيام على سائر العبادات، فلما سُئِلَ عن ذلك قال: لئن يَطَّلِع الله على نفسي وهي تنازعني إلى الطعام والشراب أحبُّ إلي من أن يَطَّلع وهي تنازعني إلى معصيته إذا شبعت”. والحديث النبوي نصَّ على أن الله ليس بحاجة أن يدَعَ المسلمُ طعامَه وشرابه في حين أن الرّوحَ مهزومة في الميدان ومازالت منقآدَّة لمتطلبات الجسد.

تتأسس كل أسرار وحِكَم الصيام الأخرى التي أمكن للعقل إدراكها على هذا السرّ والمقصد الأساسي، النزاع بين الروح والغريزة الجسدية، ومنها يبحث الإنسان عن مرضاة الله سبحانه والتزلّف إليه، ومن ثم يأتي الشعور بجوع الجائع، وبحقّ الآخرين عليه من السؤال والزيارات الإجتماعية وتصفية القلوب ومسامحة الخاطيء بحقه والحمية الجسدية والمعنوية وتعلم الاقتصاد في الصرف، وإيجابياً الإكثار من صلاة النافلة والذكر وعقد علاقة قوية مع كتاب الله بما أنه شهر القرآن، في رمضان تزداد نسبة الأجر الذي يحصل عليه المسلم عن الذي قبل رمضان وبعده.

فعلى الصائم أن يعمل على تحقيق المقاصد الخاصة والأسرار والحِكَم الجزئية للصيام كي يصيب الهدف منه، ويكون هو ما يريده الله سبحانه أن يكون.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى