المنهج الوسطي للامام القرضاوي في فقه الجهاد (1)
(1)
شيروان الشميراني
تعتمد هذه المقالة على الموسوعة الرائعة للعلامة المرحوم يوسف القرضاوي الذي يقع في مجلدين بعنوان فقه الجهاد، نوضحه في إشارات مركزة على شكل نقاط لإبراز منهجه في شرح مفهوم الجهاد وانواعه والذي بحد ذاته يتضمن مقارنة مع الفهومات الأخرى لغيره من العلماء والمفكرين، قد يتفق معهم أو يختلف، وأحياناً يلتقي بهم في مرحلة من الطريق على خط الغاية الواحدة، وهي التصوير العلمي الدقيق للمفهوم بما يزيل ما تراكم عليه من غبار وتحقيق المقاصد الحقة.
1- ينطلق رحمه الله من التعريف للجهاد، ويخرج المصطلح من التعاريف الرسمية والتقليدية الشائعة، حيث أول ما يتبادر الى الذهن عند اطلاق المصطلح هو الرمي والقتال، يقول في شرح حديث حجّة الوداع والذي ورد فيه : ” – والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله – : فهو في هذا الحديث يعطي تعريفات لهذه المفاهيم غير التعريفات الرسمية المعروفة، منبها على معان يغفل الناس عنها، ولا يتلفتون اليها …وأهم ما يتميز به الجهاد أن يجاهد الإنسان نفسه ولا يكتفي بمجاهدة العدو الخارجي” (1).
وإذا كان الجهاد هو ضد الواقفين في طريق الله ومن يصد عن السبيل، فإن الشيطان هو أول من يفعل ذلك، بل هو القائد والمخطط، والآخرون من الإنس والجان ليسوا سوى جنود منفذين، متشبهين به، يعيد بذلك ما قاله إبن القيم الجوزية، فالمعركة بالأساس هي بين الشيطان والإنسان ” وبدأت هذه المعركة منذ أن خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه واسكنه جنته وأمر ملائكته أن تسجد له تكريماً…وبهذا نرى أن الجهاد في الإسلام، يشمل – فيما يشمل – هذا اللون من الجهاد الخفي لهذا العدو المبين الذي أعلن عداوته للإنسان منذ خُلِق آدم وأعدّ نفسه وجنده لمحاربتهم بكل سلاح”(2)، وبهذا يؤكد على تعريفه للجهاد ولا ينبغي حصره في القتال وحده.
الجهاد الفكري
2- وبما أن القرآن هو المصدر المحدِّد للمفاهيم الشرعية، وانه أمر الرسول والمؤمنين أن يجهادوا الكفار بالقرآن، فإن مقارعة حجج وشبهات الأعداء ومن يتبنون رؤاهم ” العزو الفكري” والذي يسميه القرضاوي ب” الردة الفكرية”، والوقوف ضد هذه الشبهات والمرتدين الذين يلقون بوساوسهم في المجتمع المسلم ومحاججتهم، هو الجهاد الفكري المطلوب، ” إنها الردة الفكرية التي تطالعنا كل يوم آثارها في صحف تنشر، وكتب توزع، ومجلات تباع وأحاديث تذاع، وبرامج تشاهد ومسلسلات تعرض، وتقاليد تروج، وقوانين تُحكَّم…وهذه الردة الفكرية أخطر – في رأيي – من الردة المكشوفة، لأتها تعمل باستمرار وعلى نطاق واسع ولا تقاوم كما تقاوم الردة الصريحة”(3)، وإذا كان الجهاد هو كل وسْع يُبذل في سبيل الله ومرضاته، فإن الجهاد المطلوب هنا هو الجهاد في الجانب الفكري، وهو ليس بالسلاح، ولا يكون برمي السهام من الأقواس، ” إن الفريضة المؤكدة هنا، هي: مقاومة هذه الردة الفكرية ومحاربة دعاتها بمثل أسلحتهم: الفكر بالفكر، والعلم بالعلم، حتى تُكشف أستارهم”(4).
لكن كيف يكون هذا الجهاد الفكري، وما هي أدواته؟
مؤكَّد ان المجاهدين هنا ليسوا الأشخاص الذين يعيشون في الماضي ومشاكله، من العاكفين على كتب الملل والنحل والفِرَق بكل ما فيه من أمراض فكرية تاريخية، ونصوص وصياغات لا تجد لها في الأرض الواقعية محلاً ولا موضعاً، ” الجهاد المطلوب هنا ليس مجرد شعار يرفع، ولا كلام يقال أو خطب تهزّ له أعواد المنابر، بل لا بد من إنشاء مراكز علمية متخصصة تضم رجالاً قادرين من أهل الفكر والعلم، للردِّ العلميّ الموضوعي على هذه الفلسفات والدعاوى بمنطق العصر واسلوبه”(5).
وهؤلاء المجاهدون الفكريون يكونون من خيرة الشباب النابهين ممن يقدرون على سدّ هذه الثغرة، تُعدهم معاهد عالية ذات مستوى رفيع لاعدادهم فكرياً وعملياً، إعداداً يجمع بين ما في تراثنا من أصالة وما في ثقافة العصر من حداثة، يغادرون الجانب الديني الشرعي ولا يقتصرون عليه لوحده، إلى مجالات المواجهة والتخصص في الدوائر العلمية والفكرية التي يتسلح بها الآخرون الغازون، وكما أشرنا في مقالنا السابق عن خطيئة إحياء المشاكل الفكرية التاريخية واستشهدنا برأي العلامة القرضاوي، فإن النابغين المتخصصين ممن يتصدون الى الرّدة الفكرية بعمل منظم داخل المجتمع، يكون هدفهم الأفكار الحديثة الهدامة، من :-
– دعاة الكفر- دينياً- وفلسفياً والشبهات- ثقافياً.
– المتغربون.
– الملحدون فكرياً والمنحلون إجتماعياً.
فما في أيديهم من سلاح وما في عقولهم من أفكار ليس سوى أسلحة وأفكار تتعاطى مع العصر والمشاكل المجتمع القائمة، فئة منهم تدرس الديانات السماوية والوصغية، تقارن بين اتجاهاتها وفلسفاتها ونقاط الاتفاق والافتراق بينها وبين الإسلام، ومن يتخصص في دراسة العلمانية والليبرالية وأسسها الفلسفية ونشأتها التاريخية، تردّ عليها وتبين أضرارها، وفئة تتخصص في الماركسية واصولها الفلسفية، الألمانية والإنكليزية والفرنسية، في ماديتها التاريخية الجدلية واعتمادها على الصراع الطبقي الاجتماعي، مع ما تنتجها من دكتاتورية.
ويبنغي ان يكون هناك من يهتم ويتفرغ للمدرسة الوضعية، -كونت- وتلاميذه، و-دوركايم- وأتباعه، وتبين ما فيهما من قصور وتهافت وعجز.
وهكذا سائر الفلسفات المعاصرة الأخرى التي توجه الحياة الحضارية الحديثة، وتتكون أجيال من الغرب والشرق عليها، وكثير من أبناء المسلمين اغتروا بها، وتنازلوا عن دينهم وعقيدتهم من أجلها ” حتى تكون لدينا مدارس علمية وفكرية أصيلة في بحثها، عميقة في تفكيرها، متميزة بوجهتها”(6).
لو التفتنا قليلاً الى الوراء، منذ بدايات القرن الماضي، نلمس ان الجهاد الفكري لطرد الاستعمار من العقول والقلوب كان أصعب من الجهاد بالسلاح لطرد الاستعمار من الأراضي في عالم المسلمين، لقد أثبت التاريخ أن الخروج من الأراضي المحتلة كان بالمقدور، لكن لم يكن النصر في الجانب الحضاري الاجتماعي سوى بقدر قوة المسلمين الفكرية ودقة الإصابة في الجوانب العقلية والفلسفية، ولهذا اجتمع الغازون والجنود المحليون في حرب المجاهدين الفكريين من المسلمين، والمواجهة كانت ومازالت في أوجها، فهي المعركة ذاتها التي بدأت منذ الأزل بين الإنسان والشيطان. وهو الميدان الأصعب الذي يرفض التوقف ويتطلب التجديد المستمر. في وصف هذا النوع من الجهاد ابتكر – رحمه الله – مصطلح ” الجهاد المدني” انسجاماً مع المضمون القرآني لمجالات النضال، بما أن التاريخ العلمي- مع إستثناءات- اقتصر على الجهاد بالرمي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ) القرضاوي، فقه الجهاد، م/1، 163
2)ن، م، 172
3,4) ن، م، 207
5)ن، م، 208
6) ن، م، 209