عاممقالاتمقالات الرأيمقالات تربوية

النهضة العلمية ومجالات العلوم في العهد الزنكي

بقلم: د. علي محمد الصلابي

شهد العهد الزنكي نهضة علمية بارزة أسهمت في ازدهار مختلفمجالات المعرفة، حيث ازداد الاهتمام بالعلم والعلماء، وتأسستالمدارس والمكتبات، وتنوعت البحوث وألفت العديد من الكتب في علوم الشريعة والتاريخ والطب والفلك والفقه. وقد شكلت هذه النهضة مرحلةمهمة مهدت لتطور العلوم في العصور اللاحقة.

وقد شملت النهضة العلمية في العهد الزنكي مختلف العلوم، فلم يقتصر الاهتمام بالعلوم الشرعية، واللغوية، والأدبية دون غيرها، وإنْ كانت الصيغة العامة لمدارس الزنكيين، والدراسات التي قامت بها هي الاهتمام بدراسة مذهب، أو أكثر من المذاهب السُّنِّية، لكون هذا جزءاً من الأهداف التي أنشئت من أجلها هذه المدارس، وتلك الدور، التي ركَّزت اهتمامها على نشر المذهب السني، ومقاومة المذهب الشيعي؛ الذي كان منتشراً في بعض المناطق في مدة سابقة على حكم الزنكيين للمنطقة، وبخاصة في بلاد الشام، وبعض مناطق الجزيرة إبَّان فترة خضوعها للدولة الفاطمية الشيعية في مصر (1).

ولكن هذا لا يعني، بكل الأحوال اقتصار التعليم في ذلك العهد على تدريس الفقه، أو غيره من فروع العلوم الشرعية، وما يتصل بها من العلوم اللغوية والأدبية، وإنما كانت هناك مدارس علمية تُدرَّس فيها مختلف التخصصات العلمية إلى جانب ذلك التخصص الموجَّه من الدولة، والذي يتوافق مع مصالح الأمة، وعقيدتها فقد نالت ميادين علمية كثيرة نصيباً من اهتمامات الدارسين والباحثين، وقُدِّمت فيها دراسات علمية رائدة، وصنِّفت فيها كتب مهمة، اعتمد عليها كثير ممن جاء بعدهم، حيث ظهرت دراسات متخصصة في العلوم التاريخية، والجغرافية، وعلوم الرياضيات، والفلك، إضافة إلى تدريس الطب في كثير من البيمارستانات المنتشرة في المدن الزنكية، وظهر من بين المشتغلين بهذه التخصصات علماءُ كان لهم أثر كبير في إثراء المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلفات المتخصصة؛ التي ظلت رافداً للعلوم الإسلامية، وحتى الوقت الحاضر (2)، واتِّساع أفق التفكير الإسلامي في هذا الصدد، وتنوُّع الدراسات والبحوث التي قدمت فيه نتيجةٌ واضحة للنشاط العلمي الذي شهدته المدن الزنكية خلال ذلك العهد، وإليك أهم تلك العلوم:

1 ـ العلوم الشرعيَّة: كانت الغَلَبة في ميادين العلوم في العهد الزنكي للعلوم الشرعيّة من قراءاتٍ، وتفسيرٍ، وحديث، وفقهٍ، وأصوله، ثم علوم اللغة العربية، وآدابها، وهذا الأمر يتَّفق مع ترتيب العلماء للعلوم حسب أهميتها، فقد رتَّبوها إلى علوم شرعية وعلوم أخرى تخدمها وتوضحها، وفي هذا المجال ذهب الإمام الماوردي المتوفى 405هـ/1058م إلى أن أفضل العلوم هي علوم الدين؛ إذ قال: «إنه إن لم يكن إلى معرفة جميع العلوم سبيلٌ؛ وَجَبَ صرف الاهتمام إلى معرفة أهمها، والعناية بأولها، وأفضلها، وأُولى العلوم وأفضلها علم الدين؛ لأن الناس بمعرفته يرشدون، وبجهله يضلون؛ إذ لا يصلح أداء عبادةٍ جهل فاعلها صفات أدائها، ولم يعلم شروط أجزائها» (3). وهذا رأي ابن جماعة أيضاً عندما قال: (إذا تعددت الدروس؛ قُدِّم الأشرف، فالأشرف، والأهمُّ، فالأهم، فيقدم تفسير القران، ثم الحديث، ثم أصول الدين، ثم أصول الفقه، ثم المذاهب، ثم الخلاف، أو النحو أو الجدل) (4).

2 ـ العلوم التاريخية والجغرافية: ازداد الاهتمام بالدراسات الاجتماعية في العهد الزنكي وبخاصة في ميداني الدراسات التاريخية، والجغرافية، وحيث برز في هذا العهد عدد كبير من المؤرخين الذين تنوعت اهتماماتهم في مختلف صور الكتابات التاريخية، كما اشتهر عدد من علماء الجغرافيا والرَّحَّالة، الذين أثروا هذا الجانب بتأليف جديدة مهمة، وإذا كان التأليف في فضائل الجهاد، والاهتمام بالدراسات الشرعية، والأدبية المتعلقة به يجد تفسيره في الوجود الصليبي في المنطقة؛ فإنَّ الاهتمام بالدراسات التاريخية، والجغرافية يرجع للسبب نفسه، وقد تمثَّل هذا الأثر في ظهور دراسات متخصصة لها طابع الجهاد الإسلامي، ضدَّ العدوان الصليبي في المنطقة؛ حيث وجد المتخصصون بهذا الفرع من العلوم ـ الجهاد ـ مادة زخرت بها مؤلفاتهم، سواء عن طريق الكتابات التاريخية؛ التي تؤرِّخ للمعارك بين المسلمين والصليبيين، أو في الكتابة في فضائل المدن، وتراجم الشخصيات البارزة في مجال الجهاد.

كما ظهر ذلك الأثر في كتابات الرحالة الذين زاروا المنطقة، ووصفوا الأوضاع العامة التي كان يعيشها المسلمون إلى جانب الصليبيين، كما اهتموا بتحديد البلدان، وخططها، وقد أصبحت المنطقة الزنكية بسبب الوجود الصليبي فيها مركزَ الاهتمامِ السياسي، والاقتصادي، والفكري في العالم الإسلامي، حيث كانت تلك الدولة تمثّل مركز اليقظة الإسلامية في مواجهة العدوان الصليبي في المنطقة، إضافة إلى استقطاب قادة هذه الدولة العديد من العلماء الأعلام من كافة المناطق الإسلامية، مما كان له أثر في تطوير العلوم ونشاطها (5).

المصادر والمراجع:

() الحياة العلمية في العهد الزنكي، نورين برمة عبد الكريم نورين،ص237.

(2) المصدر نفسه، ص237.

(3) أدب الدنيا والدين، علي بن محمد الماوردي، ص44.

(4) تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، بدر الدين بن أبيإسحاق إبراهيم بن أبي الفضل سعد الله ابن جماعة الكناني، ص35، 36.

(5) الحياة العلمية في العهد الزنكي، نورين برمة عبد الكريم نورين،ص317.

Related Articles

Back to top button