الهجرة النبوية: “بوصلة الأمة الضائعة في زمن التيه.

أ. محمد العوامي
● كيف نستلهم دروس الانتقال من مكة إلى المدينة لإعادة بناء مشروعنا الحضاري اليوم؟
مع بزوغ فجر عام هجري جديد، يقف الواقع الإسلامي على مفترق طرق حاد:
أزمات سياسية تعصف، وهُوية تتآكل، ومجتمعات تتخبّط في بحر من التحديات.
وسط هذه الضبابية، تطلّ علينا ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، لا كحادثة تاريخية مجردة، بل كبوصلة حية ومرجعية استراتيجية للأمة التي تبدو فاقدةً لاتجاهها.
● أزمة التيه: فقدان الخارطة والمشروع:
تعيش أمتنا واحدة من أشد لحظاتها إرباكاً: غياب الرؤية الواضحة، وتشتت الأولويات، وتمزق الصف، وتصاعد الصراعات. باتت حركتها أشبه بسفينة بلا دفة في محيط هائج، تتوق إلى من يهديها مخرجاً من نفق الظلام الطويل. وفي قلب هذا التيه، تهتف بنا ذكرى الهجرة بسؤالين مصيريين: إلى أين نسير؟ وعلى أي أسس نؤسس نهضتنا؟
● الهجرة: أكثر من رحلة.. مشروع متكامل:
لم تكن الهجرة مجرد انتقال جغرافي من مكة إلى المدينة. لقد كانت نقطة تحول استراتيجية، أرسَت دعائم مشروع حضاري متكامل. مشروع يقوم على:
1. وضوح الرؤية: معرفة الهدف (بناء الدولة الإسلامية) والوسيلة.
2. التخطيط المحكم: من اختيار الوقت (شهر صفر) والرفيق (أبو بكر) والمسار (طريق الساحل ثم الالتفاف) والدليل (عبدالله بن أريقط) إلى الإعداد اللوجستي.
3. التضحية الجسيمة: تجسيداً لتفوق القيم الإيمانية على مغريات الدنيا ورهبتها.
هذا المشروع بدأ بـ تحرير الإنسان من عبودية الهوى والمادة، واختتم بتأسيس مجتمع قائم على العدل والرحمة والأخوة.
● التضحية: الاستثمار في المستقبل والأجر:
ما يميّز جيل الهجرة المؤسس هو فهمهم العميق: التضحية في سبيل الدين ليست خسارة، بل استثمارٌ في المستقبل القريب (التمكين في الأرض) والأجر الأكبر (الآخرة). تعلقهم بالدار الباقية جعلهم يتجاوزون حبّ الدار الفانية. وإحياء روح الهجرة اليوم يقتضي إعادة بناء هذا الميزان: تقديم الدين على المصلحة الضيقة، والعمل للآخرة مع إعمار الواقع بوعي.
● الجوهر: الرباط على الرسالة بين الغربة والتمكين:
لم يكن الدافع وراء الهجرة البحث عن رفاهية أو هروباً من الضغط فحسب. كان جوهرها حماية الرسالة وتهيئة الأرضية لبناء كيانها المستقل.
وهذا يذكرنا بأن الأصل في مفهوم “الهجرة” المستمر هو الرباط: الثبات على المبدأ، والدفاع عن العقيدة، والسعي الدؤوب لإيصال نور الإسلام.
الهجرة الحقيقية لا تعني الانكفاء أو التخلي عن المجتمع، بل تعميق مسؤولية المسلم في تمثيل الإسلام الصحيح والمساهمة الإيجابية أينما حلّ.
● بصيص الأمل: الوعد الإلهي في ظلمة اليأس:
رغم قتامة المشهد الحالي وتشظي الأمة، تحمل ذكرى الهجرة جرعة قوية من الأمل الواثق. فقد وعد الله تعالى نبيّه الكريم ﷺ بالعودة إلى مكة المكرمة قبل أن يطأ قدمه الشريفة أرض المدينة. هذا الوعد الإلهي كافٍ لإيقاد شعلة اليقين في قلوبنا: النصر قادم، والفرج آتٍ، والعمل الصادق المقرون بالإيمان لن يضيع أبداً عند الله.
● نحو نهضة جديدة: تحويل الذكرى إلى منهج عمل:
لن تتحقق الاستفادة الحقيقية من الهجرة ببقائها ذكرى عاطفية. لا بد من تحويلها إلى منهج عملي لإعادة بناء المشروع الإسلامي المنشود، عبر:
1. استعادة الهدف: جعل “الرسالة” و”العمل لله” محور الحياة بدلاً من العبثية واللهاث المادي.
2. ترسيخ ثقافة التضحية: مواجهة نزعات الأنانية والاستهلاكية بفعل التبرع والبذل والتجرد.
3. إحياء نسيج الأخوة: بناء جسور التآخي الصادق داخل المجتمعات المسلمة، متجاوزين العصبيات والانقسامات.
4. بناء المؤسسات الفاعلة: إنشاء كيانات تنطلق من فهم عميق لسنن الله في التاريخ وواقع الأمة المعاصر، وتعمل بمنهجية واعية.
■ البداية تحتاج بوصلة
الهجرة النبوية لم تكن نهاية رحلة، بل كانت انطلاقة حضارة غيرت وجه التاريخ. وكل انطلاقة جديدة تحتاج، اليوم كما الأمس، إلى بوصلة واضحة تستمد اتجاهها من دروس تلك الهجرة العظيمة. فهل نستطيع، في عامنا الهجري الجديد، أن نمسك بتلك البوصلة من جديد، ونبدأ رحلتنا نحو المستقبل؟