مقالاتمقالات الرأيمقالات فكرية

انتهاك لا نهاية له … فوكو الذي لا نعرفه… إضاءة على كتاب فكرة الاضمحلال في الفكر الغربي

انتهاك لا نهاية له … فوكو الذي لا نعرفه… إضاءة على كتاب فكرة الاضمحلال في الفكر الغربي

هشام الشلوي

مقدمة

في قاعات الدرس الحديثة وفي المنتديات الأكاديمية الكبرى، عليك الحديث بحذر، بل وفي تبتل أحيانا، عن بطل وعلم من أعلام ما بعد الحداثة، أقصد الفرنسي ميشيل فوكو، فهو برأي جيل من المثقفين الحداثيين، المتمرد على سلطة الخطاب والكاشف عن عوراته، لأنه وببساطة بعيدة عن التعقيد الفلسفي، منقلب على منجزات عقل عصر التنوير، مزدرئ للديمقراطية وحقوق الإنسان والليبرالية والرأسمالية، بل ومحتقر للإنسان كما هو.

مدخل فوكو كان نقد سلطة الخطاب الغربي الكامنة في هذه المنجزات الغربية، مفهوم الجنس كان أحد مقاصد فوكو، عمليا مارس فوكو الانحراف والشذوذ إلى أقصى مدى والذي أفضى في نهاية المطاف إلى إصابته بالإيدز ونقله للذين يمارسون معه الرذيلة، لأن الجنس والموت هما الحيوية التي رأى أنها ستهدم معبد العقل الغربي وتعيد بناءه من بين ركام الحرائق.

ما كتبه آرثر هيرمان في كتابه (فكرة الاضمحلال في الفكر الغربي) عن تجربة فوكو للأسف ليس من السهل العثور على مثله في الكتابات العربية. لذا احتفى المناوئون لفوكو بما كشفته صحيفة صاندي تايمز البريطانية في الثامن والعشرين من مارس آذار العام الماضي، التي نقلت عن الكاتب الفرنسي/ الأمريكي غي سورمان قوله: كان فوكو يتحرّش بأطفال تونسيين جنسيا ويعتدي عليهم. كان الأطفال الصغار يلاحقون فوكو ويقولون ماذا عني؟ خُذني .. كانوا في سن الثامنة والتاسعة والعاشرة، وكان يرمي الأموال لهم، ويقول سنلتقي في المكان المعروف عند الساعة العاشرة مساء. والمقصود مقبرة المدينة. (1)

فكثير من الكتّاب العرب المحتفين بفوكو يتجنبون ذكر تفاصيل مهمة وعميقة عن تجربة فوكو، لأنها ببساطة مخجلة في مجتمعات عربية بنت ثقافتها الجنسية على تقاليد مستمدة بالدرجة الأولى من الإسلام، الذي حمى العفة وأمر بالستر من خلال أصوله الكلية وليس فقط عبر تفاصيل صغيرة مبثوثة هنا أو هناك.

لذلك لا نستغرب أن يحتل عنوان “سلطة الخطاب” وتفكيكها، المكانة الأبرز في الكتابات العربية عند الحديث عن إله الجنس النيتشوي، ميشيل فوكو، كمرواغة محببة بل ومأمور بها في مذهب ما بعد الحداثة، لإخفاء حقيقة الإنسان الذي يقصده ويريده فوكو أن نكون عليه، يرفض منجزات العقل الغربي فينصحنا نحن سكان الأرض قاطبة بالشذوذ والموت بداء الجنس كتحرر نهائي من عقل غربي تقبع في كل خطاباته المؤسسية بدءا من الأسرة ومرورا بالمجتمع المدني وانتهاء بالدولة، كل عورات وقبح السلطة التي تقيدنا عن الحيوية.

هل كان الما بعد حداثي العربي في حاجة إلى الثامن والعشرين من مارس آذار العام الماضي ليعرف المدى الذي ذهب إليه فوكو في شذوذ؟ أقول: لا. لذا نجد أنفسنا مضطرين إلى انتظار أمثال المؤرخ الأمريكي آرثر هيرمان، حتى يضع لنا فوكو على مشرحة النقد التاريخي والفلسفي ليس فقط من خلال ما كتبه فوكو، بل بتسليط أضواء كاشفه على حياته الخاصة وسلوكياته المقيتة.

فوكو والاضمحلال الغربي

خصّص المؤرخ الأمريكي آرثر هيرمان عشر صفحات من كتابه، فكرة الاضمحلال في الفكر الغربي، الصفحات من(419 إلى 428) لعرض فكر النبي الفرنسي ميشيل فوكو. يقول هيرمان: إن فوكو لم يقترح ما هو أقل من التغيير الكامل لمفاهيم العقل واللاعقل، الحقيقة والزيف، حتى الكائن البشري ككائن روحاني وفكري، وإن الصورة الغربية للإنسان بكاملها سوف تنمحي في النهاية مثل “وجه مرسوم بالرمال على شاطئ البحر”

فوكو كان يرى أن الإنسان عليه أن يبحث عن الحرية وراء صورته ككائن عقلاني، وذلك يعني أن يطرح الإنسان جانبا ما تعلمه من مؤسسة الأسرة والمؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة والمجتمع، وكان يستغرب جدا ألا يكون الإنسان أكثر من صدع في نظام الأشياء، أي مدمر لها.

إذا أردت الحرية بمنظور فوكو فعليك أن تدمر كل القيم الأخلاقية والإنسانية ومصادر معرفة هذه القيم –الله والتاريخ- وكان يعتقد أن الفرد الحر يمكن أن يعاود الظهور مرة أخرى بعد سقوط الحداثة الغربية بما تعنيه من إعلاء للعقل، وأن التحرر من الغرب البرجوازي يتطلب التحرر من الناتج الذي يعبر عنه، أي من الإنسان الغربي نفسه.

لجأ فوكو إلى أفكار جورج باتاي وآنتوين آرتو، اللذين كانا يجمعان بين عدمية نيتشه المعادية للأفكار والمؤسسات التقليدية وصور الموت والعنف في أشعار شارل بودلير وتلاميذه الرمزيين الذين كانوا ينادون برفض جميع أشكال العقل والأخلاق ويعتبرونها قيودا لا تحتمل على حرية الفرد الخلاقة.

السادية؛ العنف؛ الجنس، وحتى الجنون كلها لها قيمة مهمة وأساسية في ذاتها، لأنها تعبيرات صرفة عن غرائز الإنسان الحيوية، يحاول المجتمع احتواءها وكبحها. إعادة تقييم نيتشه لكل القيم كان بالنسبة لفوكو منهاجا للانتهاك لا نهاية له، وإعلان الحرب على المجتمع من خلال الاحتفاء بالقسوة والانحراف الجنسي. فالمجرم بالولادة هو الكائن البشري في أكمل صورة وأكثر حيوية، والأفعال التي تصفها الحضارة بالشر والرداءة هي في الواقع كما يصفها آرتو أعلى أشكال الحياة.

في أكثر أعماله قراءة (الجنون والحضارة) أكد فوكو أن الجنون هو نوع من الحرية، وأنه في العصور الوسطى وعصر النهضة، كان جزءا من الحالة الإنسانية، بل إن الجنون كان تعليقا ساخرا على استقلال الإنسان وادعاء امتلاك الاستقلالية والسلطة الذاتية، ثم جاء العصر الكلاسيكي الذي عرّف الجنون بأنه عدو للعقل والإنسانية، مما يستلزم العزل القاسي والوحشي للمجنون والمنحرفين في مصحات، فعمليات العزل والاحتجاز والتصنيف لكل غريب وشاذ وخطر على العقل كان من خواص التنوير والحضارة الحديثة من وجهة نظر فوكو. مفهوم الحقيقة عند فوكو كان حيلة من حيل السلطة.

تاريخ الجنسانية

مشروع فوكو الأخير تاريخ الجنسانية الذي بدأه عام 1976 رفض فيه التراتبية الصارمة للمتع الجسدية المقبولة، معتقدا أن الموقف البرجوازي الغربي القمعي تجاه الجنس لا يمكن التخلص منه ببساطة وبمبادرة فردية.

وتطبيقا لذلك افتتن فوكو في زيارته للولايات المتحدة نهاية السبعينيات بمشاهد الشذوذ الجنسي في سان فرانسسكو، في الحمامات العمومية وفي القضبان الجلدية والسلاسل والسياط وجميع الممارسات السادو-ماسوشتيه، وهذه الممارسة الأخيرة تمثل في رأي فوكو التجربة الحدية كموقف وجودي تتحرر فيه القوى الحيوية للنفس من زيف اللذة عن طريق الجنس المتمركز حول الأعضاء الجنسية.

عندما علم فوكو أنه مصاب بالإيدز نتيجة ممارساته الجنسية الشاذة، كانت تلك تجربة حدية بالنسبة له: الجنس كشكل من أشكال الموت، والقدرة على منح الموت للآخرين عن طريق الجنس.

لمدة عامين على الأقل من إصابته بالإيدز، كان فوكو مواظبا على زيارة أماكن تجمع الشواذ (من 1982 إلى 1984) وكان ينقل المرض إلى شركائه المجهولين، وكان يعرف ذلك. قال لأحد محاوريه: نحن نخترع متعا جديدة أبعد من الجنس. وفي هذه الحالة تحديدا، كانت المتعة هي الجنس كعملية قتل.

في عدمية فوكو لابد من تدمير كل ملمح أو أثر شكَّله الآخرون فينا: هويتنا السياسية والثقافة الجنسية، مفهومنا للخطأ والصواب، الجنون والعقل، حتى ما هو حقيقي وما هو زائف… كل ذلك لابد أن يختفي. وفي النهاية يختفي الفرد نفسه. لا يتبقى منه سوى القوة القلقة وسريعة الاهتياج.

1-أنور الجمعاوي / سقوط ميشيل فوكو في تونس/ موقع العربي الجديد الإلكتروني/ بتاريخ 15 أبريل 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى