بعد معركة الطوفان والعدوان .. لن ننسى ولن ينسى التاريخ

بقلم أ.د. أحمد الريسوني(*)
لقد دقت ساعة الحقيقة، وبدأ الحساب الطويل..
إنه الحساب على أطنان الجرائم التي ارتكبت في حق الشعب الفلسطيني بقطاع غزة، وهي تتواصل الآن بأشكال جديدة.. إنها أطنان الجرائم، وليست فقط أطنان الأسلحة؛ من قنابل وقذائف وألغام ومتفجرات وغيرها من الأسلحة الفتاكة. أطنان الجرائم التي أوقعت نحو مليون من المصابين والشهداء، أكثرهم نساء وأطفال وشيوخ عزَّل، إلى غير ذلك مما هو معلوم من الجرائم الهمجية، التي جرت تحت سمع العالم وبصره..
الحساب سيمتد زمنيا ومكانيا، أفقيا وعموديا، بقدر ما سيتكشف ويتأكد من حقائق وأهوال، وخبايا وأسرار، وبحسب قوائم المجرمين، الأصليين منهم والتابعين، والشركاء والمتواطئين، والمناصرين والساكتين.
ولن ننسى، ولن ينسى التاريخ، أن كثيرا من “العرب”، ومن “المسلمين”، ساندوا – وما زالوا يساندون – جرائم الاحتلال والعدوان، وهم يدعمون العدو الغاصب: اقتصاديا، ولوجستيا، ومخابراتيا، ويفتحون له ولجيشه أرضهم وسماءهم، وبَـرَّهم وبحرهم، لتمكينه من لقضاء على المقاومة الفلسطينية..
لن ننسى، ولن ينسى التاريخ، أولئك القائمين بحماية دولة المجرمين وتأمين حدودها، والقائمين بإحكام الحصار على الشعب الفلسطيني، لتجويعه وقهره وإذلاله ليستسلم، حتى لفد فام بعضهم بالمنع من جمع التبرعات الإغاثية لفائدة المنكوبين والمصابين والجائعين في غزة، مع محاكمة المحسنين الكرام، والسطو على ما قدموه وجمعوه. وكثير من هؤلاء “المسلمين” ساكتون لامبالون، ولسان حالهم يقول: لم آمُــْر بها ولم تسؤني.
لن ننسى، ولن ينسى التاريخ، ذلك الرئيسَ البئيس، رئيسَ التنسيق الأمني، الذي وصف المجاهدين الشرفاء بـ “أولاد الكلب”، فضلا عن زملائه العرب، الذين يصفون ويصنفون المقاومة المجيدة بكونها عملا إرهابيا، ويسارعون كل مرة إلى إدانة العمليات الفدائية ضد المحتل المعتدي المجرم.
المحاسبات والمحاكمات ستقوم بها الشعوب، وسيقوم بها المفكرون والكتاب المستقلون، والمؤرخون الأمناء، والإعلاميون المحققون. وربما تقوم بها هيئات حقوقية وقضائية، ولو بعد حين.
عما قريب سيموت المجرمون ويتساقطون تباعا، ولكنَّ محاسبتهم ومحاكمتهم، التاريخية والأخروية، ستستمر بعد موتهم، وبعد موت سلطانهم وسلطان أعوانهم، وأعوان أعوانهم. وحينئذ ستكون المحاسبة والمحاكمة أكثر أمنا، وأكثر صدقا، وأكثر عدلا.
المحاسبات والمحاكمات التاريخية والقضائية والحقوقية ستستمر طويلا، وستتردد أخبارها وأصداؤها على مدى عقود وقرون.. وهي متروكة لأهلها، من هذا الجيل، ومن الأجيال القادمة..
ولكني أقدم فقط لمحات من الحساب الشرعي، الذي سيخضع له الظَّـلَمة المجرمون بجميع أنواعهم ودرجاتهم؛ إن لم يكن في هذه الدار ففي الدار الأخرى.
الإحصاء الشرعي للجرائم
السجلُّ الشرعي للجرائم والمظالم، لا يندُّ عنه شيء منها، مهما كان صغيرا ضئيلا، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30].
وقال العزيز الحكيم: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 47 – 49].
وقال جل وعلا: {وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} [الأنبياء: 4 {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 8]. وحبة نبات الخردل تساوي جزءاً من ستة أجزاء من حبة الشعير. وأما الذَّرَّةُ فأصغر منها بكثير.
فإذا كان الحساب الرباني لا يترك مقدار حبة خردل، ولا مثقال ذرة، من الشر والظلم، فكيف بأطنان الجرائم والمظالم التي ظلت تُـصبُّ على أهل غزة – ليل نهار – على مدار سنتين كاملتين، بمشاركاتٍ – مباشرة وغير مباشرة – لجيوش وحكومات صهيونية وغربية وعربية؟!
السجلُّ الشرعي للظلمة والمجرمين
هذا السجل لا يُـفلت منه أحد من الظَّـلمة، ومن أعوانهم وأعوان أعوانهم، ولو إلى الدرجة المائة فأكثر. فلا مجال هنا لظاهرة “الإفلات من العقاب”، ولا مجال للتفلت والتعلل بالظروف والإكراهات والتعليمات.
فكل من كان له فعلٌ أو أثر في الجريمة، من قريب أو بعيد، وكل من أسهم فيها أو ساعد عليها؛ بأي شكل وبأي مقدار وبأي وسيلة: بمالـه أو بسلاحه، أو بيعه وشرائه، بلسانه أو بقلمه، بيده أو برجله، أو بأصبعه، أو بإذنه وموافقته، أو بإشارة أو نظرة مؤيدة، أو بسكوته وسلبيته، أو برضى قلبه، أو بتقصيره في واجبه وخيانته للأمانة المنوطة به..
كل ذلك، وكل أولئك: مكتوبون في سجلات المجرمين وأعوان المجرمين وخدام المجرمين، وسيلقون حسابهم وعقابهم، جزاء وفاقا.
وفي الحديث الشريف: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة، لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه: آيسٌ من رحمة الله).
وفي الحديث أيضا: «من أعان على خصومة بغير حق، كان في سخط الله حتى ينزع».
هذا فيمن يتسبب أو يسهم في إذاية شخص واحد من الناس.. فكيف بما لا يحصى من جرائم القتل والحصار والتجويع والترويع والتشريد والتخريب والتدمير؟؟!!
وفي (وفيات الأعيان) لابن خلكان: “عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: لا تملأوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم، لكي لا تحبط أعمالكم”.
وفي (مناقب الإمام أحمد) لابن الجوزي: “قال أبو بكر المُّروذي: لما سُجن أحمد بن حنبل، جاءَ السَّجان، فقال له: يا أبا عبد الله، الحديثُ الذي رُوي في الظَّلَمة وأعوانهم صَحيحٌ؟ قال: نعم، قال السجان: فأنا من أعوانِ الظَّلَمة؟ قال أحمد: فأعوان الظَّلَمة: من يأخذ شَعرك، ويغسل ثَوبك، ويُصلح طعامك، ويَبيع ويشتري منك. فأما أنتَ فمِن أنفُسِهم”.
(*) أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة في عدد من الجامعات، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سابقا.