بين جاهلية الأمس وحضارة اليوم
د. خالد حنفي
أكثر من ثلاثين يوماً مضت على الحرب في غزة المحاصرة لم يتوقف خلالها قصف المشافي والبينان والعمران والإنسان، وبقي المرء عاجزاً عن متابعة المجازر والمذابح التي تقع كل ساعة، وتعددت المقاطع المصورة التي تنقل المأساة الإنسانية للأطفال والنساء والمدنيين في غزة، وقد تواترت الأخبار أن أغلب الشهداء والقتلى في هذه الحرب من النساء والأطفال.
يقع كل هذا أمام صمت وخذلان عربي، وتأييد ودعم غربي مكشوف، ومن أهم نتائج هذه الحرب أنها كشفت زيف قيم الحضارة الغربية وكذبها؛ فأين دعاة حقوق الإنسان والحيوان؟! وأين الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها انتصاراً لعمل المرأة، وميراث المرأة، وحجاب المرأة، وتحرير المرأة، وظلم الإسلام للمرأة؟! ألم يبلغهم خبر قتل قرابة ثلاثة آلاف امرأة في تلك الحرب؟ وأين دعاة حقوق الطفل وحمايته؟ ألم يبلغهم خبر قتل أكثر من أربعة آلاف طفل في هذه الحرب حتى كتابة هذه السطور؟! وأين أنصار البيئة وحماتها ألم تقرع آذاناهم أصوات القنابل الملقاة على غزة المحاصرة الأبية بالأطنان؟!
بل أين حرية التعبير في الغرب الذي منع التظاهرات السلمية المناصرة لفلسطين وحظر رفع علم فلسطين، ورفض كل صور التعاطف مع المظلومين أو نصرتهم فغيَّر القوانين، وتوعد الناشطين في دعم قضية فلسطين بالترحيل وسحب الجنسيات والإقامات، على الرغم من أن الحكومات الغربية تمسكت بحرية التعبير وسمحت بالإساءة لأقدس المقدسات عند المسلمين تحت غطاء حرية التعبير؟ ألم تعلن الحرب على غزة المدعومة دولياً موت الإنسانية والديمقراطية والعدل والحرية؟
لقد تعددت صور ازدواجية المعايير في الغرب في التعامل مع القضية الفلسطينية؛ فوقعت التسوية بين الجاني والضحية، والمعتدي والمعتدى عليه، وهذا الكبت وتلك الازدواجية تُفقد الشباب والناس الثقة في الأنظمة والسياسيين، وتهدد السلم الاجتماعي للمجتمع، بل تجعل العالم القوي بأسلحته ضعيفاً بأخلاقه كما قال الرئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش: “إنَّ كل قوة في العالم تبدأ بثبات أخلاقي، وكل هزيمة تبدأ بانهيار أخلاقي”، وأي انهيار بعد قصف المستشفيات وقتل الأطفال والمدنيين العزل؟!
إنَّ تآكل منظومة القيم الغربية وانكشاف سياستها تجعلنا نعود إلى قيم الجاهلية قبل الإسلام ونقارن بينها وبين حضارة اليوم، ونقول بكل أسف: ليتنا نعود إلى تلك القيم! فرغم تلك الجاهلية التي أنقذهم منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالإسلام، ورغم سيئاتها وقبحها فإنها كانت تحمل قيماً إيجابية كبرى نفتقدها في حضارة اليوم الزائفة، ومنها:
1. بين حلف الفضول وحلف الفجور:
رغم أن البغي والظلم كان من أظهر صفات المجتمع الجاهلي إلا أنه عرف نجدة المظلوم ورد الحق إليه؛ فقد تداعت قبائل العرب إلى تأسيس حلف الفضول، واجتمعوا له في دار عبدالله بن جدعان، وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكةَ مظلومًا من أهلها أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس، إلا قاموا معه، وكانوا على مَن ظلمه حتى تُرَد عليه مظلمتُه، وقد شهِد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحلف في شبابه وقال عنه:” لقد شهدتُ في دار عبدالله بن جدعان حِلفًا ما أحب أن لي به حُمْر النَّعَم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت”. وقد كان سبب تأسيس هذا الحلف أن العاصَ بن وائل اشترى بضاعة من “زبيدي”، وماطله في ثمنها، وامتنع عن الدفع، فاستعدى عليه بعضَ الناس فلم ينصروه؛ لشرف العاص، ومكانه فيهم، فوقف الرجلُ على جبل أبي قُبَيس مطلع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، وأنشد شعرًا يعرِضُ فيه أمرَه ومظلمته، ويدعو الناس لنصره، فهب الزبير بن عبدالمطلب وقال: ما لهذا مترك؟ ثم كان الحِلف في دار عبدالله بن جدعان، حلفٌ يتأسس لرد مظلمة مالية لتاجر فقير من أحد أشراف قريش وسادتها يقع في ظلمات الجاهلية وبغيها، فماذا عن حضارة اليوم التي دعمت وباركت سلسلة هائلة من المظالم المنقولة إلينا على الهواء مباشرة، وليتها كانت مظالم مالية كمظلمة التاجر الزبيدي في الجاهلية، ولكنها مظالم الدماء، واغتصاب الأرض والعرض وقتل الأطفال، وتدمير البنيان والقضاء على مقومات الحياة في غزة، والحلف المعاصر صار حلفا للفجور لا الفضول؛ فوقف إلى جوار القاتل ومنع أي محاولة لإيقاف شلال الدم وقتل الأبرياء، أوَليست جاهلية الأمس خيرًا من حضارة اليوم؟! ولم تكن الأحلاف العربية أفضل حالاً من الدولية من حلف التعاون الإسلامي، إلى حلف جامعة الدول العربية تلك الأحلاف العاجزة حتى عن مجرد الاجتماع!!
2. أشراف قريش في الجاهلية يرفضون الحصار والتجويع:
ضَيَّقت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه حتى حاصروهم في شعب أبي طالب ثلاث سنوات، وكانت من أشد الأيام على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، ورغم ذلك وُجد من العرب من تحركت الإنسانية في قلبه فتحرك لإنهاء المقاطعة، وقال قائلهم: “يا أهلَ مكَّة، أنأكلُ الطَّعامَ، ونَلبَسُ الثِّيابَ، وبنو هاشمٍ هَلْكى، لا يُباع ولا يُبتاعُ منهم، والله لا أقعدُ حتَّى تُشَقَّ هذه الصَّحيفةُ القاطعةُ الظَّالمةُ”.
وغزة وأهلها محاصرون منذ أكثر من 16 وليس 3 سنوات تحت سمع وبصر العالم وتنقطع الكهرباء عن المشافي وتموت الأطفال في الحضانات ولا يتداعى أحدٌ لنصرتهم وقطع حصارهم، أو ليست جاهلية الأمس في تلك أيضا خيرٌ من حضارة اليوم؟!
3. الحرص على الصدق والخوف من الكذب:
رغم طغيان الجاهلية وكفرها إلا أنها عرفت الصدق ولم تجرؤ على الكذب المفضوح كحضارة اليوم الزائفة؛ فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن أبا سفيان أخبره: “أن هرقلَ أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارًا في الشام، في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مهادنًا فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بتَرجمانه فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبًا، فقال: أدنوه مني، وقرِّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائلٌ هذا عن هذا الرجل، فإن كذَبني فكذِّبوه، فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا علي كذبًا لكذبتُ عليه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نَسَب، قال: فهل قال هذا القولَ منكم أحدٌ قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه مِن ملك؟ قلت: لا، قال: فأشرافُ الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤُهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتدُّ أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقولَ ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدِرُ؟ قلت: لا، ونحن منه في مدةٍ لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم يمكِنِّي كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سِجال؛ ينال منا، وننال منه، قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا اللهَ وحده، ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصِّدق، والعفاف والصِّلة”.
فتأمل كيف منع الحياء أبا سفيان من الكذب رغم طغيانه وكفره؟! ثم تأمل كيف بلغت مستويات ودرجات الكذب في الإعلام الغربي وكيف عمدت لتبديل الحقائق المنقولة على الهواء والتي تعددت صورها وتكررت ليبرروا قتل الأطفال والنساء والمدنيين في المستشفيات ومناطق الإيواء، أو ليست جاهلية الأمس في صدقها خير من حضارة اليوم في تلونها وكذبها؟!