بين حِصار الشِّعب وحصار غزة

د. خالد حنفي
في نهاية السنة السابعة من بعثة النبي صلى الله الله عليه وسلم فرضت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم حصاراً اجتماعياً واقتصادياً قاسياً استمر ثلاث سنوات، وكان شرطهم لفك الحصار عنهم أن يُسلِّموا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، ووثقوا ذلك في صحيفة وختموها بثمانين ختماً وعلقوها في الكعبة تأكيدا على قدسيتها وعدم التفكير في نقضها، وقد اشتد الحصار على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه حتّى أنفق أبو طالب والنبي صلى الله عليه وسلم مالهما، كما أنفقت خديجة أموالها الطائلة في هذا الحصار الظالم، وبلغ من شدة الحصار أنهم أكلوا ورق الشجر من شدة الجوع، وكان بكاء الصبية الصغار يُسمع من بعيد من شدة جوعهم، وكان أحدهم إذا قضى حاجته يضع كما تضع البعير، وتذكر بعض الروايات أن أحد الصحابة خرج ليلةً والجوع يطحنه، فتحرك شيء من تحته أرضًا، فالتمسه بيده، فإذا هو قطعة من جلد بعير، فأخذها من فرط قسوة الجوع، فغسلها بالماء، وأحرقها، ثم كسرها، وسفّها بالماء، ولم يكن يصلهم شيء من الطعام والشراب إلا ما يتسرب سراً من بعض المتعاطفين معهم مع طول أمد الحصار.
واستمر الحصار حتى تحركت النخوة والإنسانية في قلب هشام بن عمرو الهاشمي فجمع خمسة معه من زعماء قريش وأقنعهم بضرورة فك هذا الحصار الظالم رغم تعقد المهمة واستحالتها حتى جاء أحد الخمسة وهو زهير بن أبي أمية فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، وتتابعت الحوارات والجهود حتى انتهى الحصار الظالم المفروض على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه.
مفارقات بين الحِصاريْن:
هذا الحصار القديم يذكرنا بالحصار الحديث المفروض على غزة، والواقع أن حصار أهل غزة أشد قسوة وظلما من حصار الجاهلية وذلك من وجوه أهمها: طول أمد حصار غزة 18 عاما من الحصار والتجويع، و18 شهرا من حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وتهجير أهل غزة من أرضهم مع قصر مدة حصار الشِّعب 3 سنوات فقط، ومنها: أن حصار الشِّعب لم يصاحَب بحرب وقتال كما في حصار غزة، وإنما اقتصر على الحصار الاقتصادي والاجتماعي فقط، ومنها: أنه لم تكن هناك وسائل إعلام تفضح قريشا وقتها وتردعهم عن فعلهم الشنيع كما هو الحال الآن حيث يتابع العالم شرقا وغربا لحظة بلحظة وعلى الهواء المذابح والمجازر الظالمة المستمرة على أهلنا وإخواننا في غزة، ومنها: أن المحاصَرين في الشِّعب بين مئة أو مئتين والمحاصَرين في غزة أكثر من مليونين، ومنها: أن النخوة والشهامة تحركت في قلوب خمسة نجحوا بصدقهم وعلو همتهم في فض الحصار، والعالم اليوم عاجز عن إنشاء تحالف إنساني يغيث غزة ويدخل لها الغذاء والدواء ويوقف حرب الإبادة الظالمة، ومنها: أن مشاهد قسوة العالم وفقدان إنسانيته اليوم تبدو أعظم بكثير من قسوته في الجاهلية، فأين مشهد قتل ستة أبناء لرجل واحد من أهل غزة وصلاته الجنازة عليهم من مشهد بكاء الصغار جوعا في حصار الشعب؟ وهذا الحصار الظالم للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه في شِعب أبي طالب مقارنة بحصار وقتال أهل غزة اليوم يحمل لنا الكثير من الرسائل والعبر أهمها: