تحديات التغيير السياسي ومستقبله في الوطن الليبي
الكاتب الليبي: سراج دغمان
إن بناء الدولة الليبية الحديث سياسيًا واجتماعيًا قد مر بمراحل عدة ومختلفة سواءً على صعيد البناء الاجتماعي السفلي لقاعدة المجتمع، أو على صعيد البناء الفوقي لهرم السلطة وكوادر الدولة وطبقة التكنوقراطيين والبرجوازيين، ولاشك أن هناك بعدين أساسيين متوازيين كان يشكلان الحلقة الأساسية لبناء وصناعة الدولة الوطنية الليبية في عام 1951 م بجغرافيتها التي نراها اليوم، فكان هناك البعد المحلي لحركة المجتمع الذي أفرز قيادات وزعامات وطنية في ميادين شتى تطورت عبر مراحل زمنية مختلفة، حيثُ بدأت تتشكل معالم مجتمع الشمال الموحد، وذلك تحديدًا منذُ عهد يوسف باشا القرمانلي والعهد العثماني الثاني والحركة السنوسية التي استطاعت أن تخلق نموذجها الاجتماعي الخاص والفريد، لينتهي الإطار النهائي لشكل الجغرافية الليبية الموحدة من الشمال إلى الجنوب خلال حقبة الاحتلال الايطالي، وثم ساهمت الإدارة الإنجليزية في التأسيس الفعلي لمؤسسات الدولة الليبية بإطارها الحديث، والبُعد الاخر هو البعد الجيو سياسي الدولي الذي لطالما كانَ هو المحرك الأساسي لداخل الليبي عبر التاريخ، فنجد أن ليبيا أسست الحضارات المائية واجهتها التاريخية الأولى في تاريخ جغرافية شرق المتوسط، ولطالما كان صراع الحضارات والمصالح الاستراتيجية القائم في منطقتنا بين الأمم الكبيرة حاضرًا بثقلهِ على كاهل الجغرافية الليبية، حيثُ لو حللنا تركيبة النسيج الاجتماعي الليبي سوف نجدهُ منتوجًا لتفاعل الرياح الجيوبوليتيكية من الشرق الأوسط والمغرب الكبير وجنوب أوروبا.
الواقع المأزوم ورؤية الحل..
ولعل القارئ للمشهد الليبي اليوم لا يستطيع تشكيل وبناء رؤية الحل من خلال معطيات الواقع المتأزم شديد التعقيد.
وذلك يعود للأسباب الآتية:
أولاً: لا يوجد معطيات حقيقة تدل أن الصراع القائم أسبابهُ سياسية محلية لكي يكون الحل ليبيًا فقط في منأى عن البعد الدولي، فلا يوجد بناء سياسي عميق أو بناء طبقي يفرز أيدولوجيات حقيقة تُغذي حالة الاشتباك الراهن، بل أن البنية السلوكية والفكرية بين المتخاصمين تكاد تكون واحدة بين معسكرات الأزمة.
ثانيًا: شبه غياب دور النُخب والمجموعات السياسية والمدنية الفاعلة، التي تستطيع أن تخلق حوارًا جماعيًا بناءً ينتهي بتأسيس الاستقرار وإقامة الدولة المدنية الحديثة في ليبيا مع قوى النفوذ الدولي، كما يبدو أنهُ يغيب عن بعض الساسة الليبيين أن ليبيا الحديثة ضمن المنتوج والإطار الأطلسي الأنجلوسكسوني.
ومن خلال ما تقدم نحاول طرح قراءة في رؤية الحل المستقبلي للمشكل الليبي.
أولاً: البعد الداخلي الليبي:
العامل الأساسي الذي يقوم بهِ كيان الدولة هو بنائها الاجتماعي السُفلي القاعدي، ويبدو أن البناء الاجتماعي الليبي على ما مر بهِ من شدة ومحن وصعوبات عبر أزمنة وعقود طويلة لا يزال يحمل عوامل الوحدة، اتجاه المشاريع التي تحاول أن تُجزء كيانه وتقضي على وحدتهِ، والعامل الثاني هو الأفكار التي تُشكل بنية العقل الجمعي للمجتمع بحيث يكون نتاجها النهائي هو افراز الهوية الوطنية الجامعة.
الخلل الأساسي في الداخل الليبي:
هو عدم وجود حراك فكري ثقافي مستنير منذُ عقود، فحالة الجمود الفكري التي فُرضت على الداخل الليبي وعزلهِ عن مجالهِ المائي الواسع منذُ انقلاب 1969م، لم تجعل العقل الاجتماعي الليبي يتطور ويتفاعل مع محيطهِ كما يجب، وكان المنتوج هو الانهيار المُجزئ لدولة الليبية عبر مراحل حتى الوصول إلى الانفجار الكبير في فبراير 2011 م، ويبدو أن البناء الاجتماعي القائم اليوم يحتاج إلى نخبة فكرية مستنيرة من كامل الجغرافية الليبية، تحاول أن تُصيغ مفاهيم جديدة وأفكار مغايرة عن الأفكار الموجودة اليوم، فالعقل الذي خسرنا بهِ معركة البناء والسلام والنمو لا نستطيع أن نكسب بهِ الغد المُشرق .
ولاشك أن المثقفين والنُخب العلمية من شتى المجالات لا تستطيع لوحدها دون أداة تنفيذية قوية وأداة تشريعية موحدة تدعم مجهودها انجاز الكثير في هذا الميدان، الذي يتطلب توظيف قُدرات الدولة في خلق نظام تعليمي حديث يقوم على منهجية تستطيع أن تخلق بناء فكري وثقافي جديد لدى الأجيال الجديدة والمستقبلية، كذلك تأسيس مراكز تنويرية تدعمها الدولة في المدن والمناطق المختلفة، تساهم في تشكيل بناء ثقافي جديد في البنية العميقة للمجتمع، لكي يحفظ ويُصيغ الهوية الليبية من تداخلات رياح ثقافية أخرى محيطة قد تمس بالهوية الليبية المغاربية ذات البُعد المتوسطي.
دور المُدن في حقبة التأسيس:
عندما نعود لتاريخ تأسيس دولة الاستقلال الليبية، سوف نلاحظ أن مركز الحراك الاجتماعي والسياسي حينها كان يرتكز على المدن في الشمال الليبي شرقًا وغربًا، بحيث منتوج ثقافة المدينة وكوادرها كانت إلى حدٍ ما هي المتسيدة، فنجد سلسلة من المدن في الشمال ترتكز عليها أسس الدولة في ذلك الوقت وتُشكل بنية مؤسساتها وتكنقراطيها.
وهذا ربما ما نحتاجهُ اليوم فالكثير من المدن القائمة اليوم حُصرت بثقافة الصحراء منذُ وقت طويل، حتى تأكل البناء الاجتماعي الحضري الذي قامت عليه الدولة الوطنية الحديثة، والذي شهد الكثير من الشروخ الاجتماعية منذُ زمن طويل بحيث لم تحافظ المدينة على بقاء تنوعها الثقافي والعرقي والفكري، مما جعلها في النهاية تفتقد لليونة التطور والتغيير الايجابي في حركة التاريخ .
توسيع دائرة المساحة الحضرية:
يجب النظر في المساحة الحضرية الموجودة اليوم وتوسيع دائرتها في المناخ الجغرافي الواسع لداخل الليبي، بحيث تقوم الدولة بتأسيس مدن سكانية وإدارية وصناعية مصغرة حديثة تستطيع أن تُشكل من خلالها نموذج اجتماعي وثقافي مغاير في الشمال والجنوب الليبي، بحيث تتوزع مؤسسات الدولة وقدراتها المالية عبر مجموعة من المدن الحديثة الموزعة عبر مناطق الشمال الشرقي والغربي إلى أعماق الجنوب، بحيث تُشكل نموذج يزرع الحياة والانتاج ويُقدم الخدمات والتنمية في مجال محيطهِ الدائري، ويقضي على النعارات القبلية والمناطقية ويخرج من دائرة الصراع القائم اليوم لصالح ثقافة مجتمع المدن الحديثة، كما يضمن إنهاء المركزية الخدمية والمالية ويمتد بشكل أُفقي، بحيث يُشكل رسم جديد لجغرافية الليبية لتصبح جغرافية الإقليم الواحد بنسبة مسطح حضاري يصل إلى 25% من أصل المساحة الموجودة .
إصلاح النظام الاقتصادي:
إنَّ إصلاح النظام الاقتصادي من قبل المختصين بحيث يوازي المشروع الثقافي الفكري تحول في البنية الاقتصادية الريعية الاتكالية إلى البنية الاقتصادية المنتجة الخلاقة، سواء على الجانب الصناعي بحيث تكون هناك أفكار انتاجية صناعية لدولة حسب ما يرى الخبراء والمختصين المحليين والدوليين، في المجالات التي يمكن أن تصنع صناعة محلية دولية في ليبيا مع الاستفادة من حركة الهجرة التي تغزو العالم اليوم بما فيها ليبيا، وتحويل الهجرة الغير الشرعية إلى هجرة منضبطة مُقننة تُوظف وفق مصلحة الدولة الليبية.
المُخرج النهائي:
هذا الحراك التغييري الشامل إن وضع في خطط مدروسة ومنظمة، سوف يقوم بتحويل المجتمع الليبي إلى مجتمع حديث مبني على طبقات تكافلية مكملة لبعضها، مشاركة ومساهمة في دائرة الانتاج الاقتصادي والفكري والتعليمي والثقافي والحضاري، مع توظيف الأهمية الاستراتيجية لجغرافية الليبية التي تربط الشرق بالغرب وأفريقيا بأوروبا، ويضمن منتوجه النهائي بناء مجتمع نقابي حداثي وإخراج الداخل الليبي من عزلتهِ إلى التفاعل مع محيطهِ الإقليمي والدولي وبناء ثقافة المصالح الحميدة، كما سينعكس هذا المشروع الحضاري على المناخ السياسي العام، مما يسمح ببروز طبقة سياسية حديثة تنتمي للمشاريع الفاعلة في مناخ حر عن الهيمنة مما تساهم في الحفاظ على دولة العدالة والحقوق والحريات والديمقراطية .
ثانيًا: البعد الدولي:
الشراكة الدولية في بناء الدولة الليبية
كما أسلفت في بداية المقال أن الحل الليبي يرتكز على عاملين غير منفصلين العامل الداخلي والعامل الدولي الخارجي، فعند دراسة الخارطة الجيو سياسية المحيطة بليبيا في العصر الحديث، نجد أنهُ مُنذُ انتصار الحلفاء على دول المحور قد تحولت الخطوط الجيوبوليتيكية الثلاث المحيطة بليبيا إلى خطوط أطلسية تُدار من قبل الولايات المتحدة والمملكة البريطانية وحلفائهم الاستراتيجيين، مع تواجد الاسطول السادس الامريكي في جنوب أوروبا في الخط الجيو سياسي النابوليتاني والاسطول الخامس في الخليج العربي الخط الجيو سياسي الشرق أوسطي وسيطرة البحرية الملكية البريطانية على مضيق جبل طارق الخط الجيو سياسي المغاربي، مما فرض قوة نفوذ دولية سمحت باستمرار الاستقرار والسلم في المنطقة لعقود طويلة، وفق الرؤية الأطلسية الانجلو سكسونية لشكل الشرق الوسط وشمال أفريقيا وأوروبا، في الاتفاقيات الناتجة عن حربي العالم الأولى والثانية.
مخاطر التغيير الجيوبوليتيكي:
إنَّ صعود قوى دولية جديدة تحاول أن تفرض صياغة جديدة لشرق الأوسط وأفريقيا وأجزاء من أوروبا وآسيا قد تودي برسم جغرافي جديد مغاير لما عليه الحال اليوم.
بحيث تتوزع دوائر النفوذ الدولي بشكل جديد على جغرافية مناطق الصراع ذات الأهمية الاستراتيجية، ومن الملاحظ أن التواجد الصيني الروسي في عمق القارة الأفريقية أصبح يحاصر جغرافية الجنوب الليبي ليشكل خطًا جيوبوليتيكيًا رابعًا، يمتد من أفريقيا الوسطى إلى شمال أفريقيا في مناطق الوسط الليبي، ليحاول أن يرسم تواجدًا على ساحل شمال أفريقيا المتوسطي المُطل على جنوب أوروبا.
بحيث تتشكل مخاطر المشروع الروسي الصيني القائم في منطقتنا على وحدة التراب الليبي، فهي قوى دولية صاعدة لا تؤمن بالرسم الأطلسي لجغرافية الليبية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يأتي هذا مع الصراع القائم بين دول المتوسط على الموارد الغازية وترسيم الحدود المائية بما يضمن بقاء وسيطرة الدول ذات النفوذ التاريخي على الحركة المائية في المتوسط.
الخاتمة:
على العقل السياسي والنخبوي الليبي فهم تحديات المرحلة على الدولة الليبية وجغرافيتها الموحدة وأن يستوعب مدى خطورة المرحلة الدولية القائمة اليوم، عبر جر الجغرافية الليبية لكي تكون منطقة ساخنة لساحة صراع طويل المدى بين القوى النافذة المختلفة سواءً في مجال الشمال الليبي والصراع المائي المتوسطي، أو في مجال الجنوب الليبي والصراع البري على العمق الأفريقي.
عليه يجب أن يتوحد الداخل الليبي في مشروع الأمة والمجاميع الفاعلة لا في مشاريع الفرد والرهانات الخاسرة، التي أوصلت الكيان الليبي إلى هذا الوضع المأزوم القائم اليوم، فالتغيير والاصلاح المطلوب لا يقودهُ زعيم واحد، بل تقودهُ مجاميع نشطة من الوطنيين الأحرار، من مختلف ألوان الطيف السياسي والطبقي والمعرفي والفكري، ليحافظوا بالعقل والدهاء وبثقافة البناء لا بالبندقية والحروب على بلادهم ووطنهم، وأن يعبروا العواصف بهدوء ورؤية وطنية جامعة، لكي يبقى الوطن بجغرافيتهِ القائمة اليوم تحت مظلة الحكم الديمقراطي الحر الرشيد .