تعانق السلطة والثروة ومجريات الأحداث؟
{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، دعوةٌ دعاها نبيُّ الله موسى على فرعون والملأ من حوله؛ عندما تحالفت السلطةُ مع الثروة، ووقعت بينهما مواطأةٌ على وَأْدِ الحقيقة، ونشر الفساد في الأرض، وإضلال الخلق عن سبيل الحق؛ فهل ما يجري في الأرض اليوم صورةٌ مُحَدَّثة لما وقع في التاريخ القديم فاستدعى تلك الدعوة التي أوردها القرآن؟ وهل نحن أمام آلاف النماذج الْمُحَدَّثة لتحالف قارون وفرعون وهامان؟ وهل جَسَّدَتْ العبارةُ القرآنية {وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ} هذا الخراب الذي حلَّ بهذا الكوكب بسبب طغيان المال وهيمنته على القرارات السياسية؟ وهل في القرآن حلول لهذه المعضلة؟
نماذج مُحَدَّثة فاقت القديم في بشاعتها:
على الرغم من مخالفتها الصارخة للفطرة وللطبيعة الإنسانية، وتهديدها المباشر لمستقبل البشرية وللتركيبة الديمغرافية لكثير من بلدان العالم، بما فيها البلدان المشجعة عليها، وعلى الرغم من افتقارها الشديد لأيّ أساس علميّ يمكن أن يبرِّر أو حتى يفسِّر الدعوة إليها بهذه الطريقة الجنونية، وعلى الرغم من معارضة جميع الأديان وكافّة المذاهب للفكرة وما يترتب عليها من سلوكيات، على الرغم من ذلك كلّه تَلْقَى الدعوة إلى المثلية دعمًا غيرَ مفهومٍ ولا مبرَّرٍ من حكومات ومؤسسات دولية؛ لا لشيء إلا لتحقيق مآرب الرأسمالية، بتقليص أعداد السكان؛ تمهيدًا لإحكام السيطرة على الإنسان. أليس ذلك أَصْرح وأَصْرخ مثال لتعانق السلطة والثروة؟
وقلْ مثلَ ذلك أو قريبًا منه في الدعم المريب لمشاريع الذكاء الاصطناعيّ؛ الذي يراد منه في النهاية هيمنة الفئة -المالكة لهذا البلاء الاصطناعيّ- على المجموع البشريّ.
كنّا من قبل -إذْ كان الشر بسيطًا- نظنّ أن تعانق السلطة والثروة لا يتبدى إلا في الملَكِية، التي تحوزهما معًا في العادة، فلما تقدمَتْ بنا الحياةُ نحو “نفاقيّة معقدة” أدركنا صورًا أكثر عمقًا وألَمًا، وجاء الربيع العربيّ لينزع البرقع عن وجهين شائهين ملتصقين في رأس واحد تحت قُبَّعة الجمهورية، أحدهما: سلطة قمعية مستبدة، والآخر: طبقة رأسمالية فاسدة مفسدة، ظهر بعضها في الحكم وبقي الآخر في الظلّ، حازت الثروة لنفسها ولشريكها القابع فوق الشعب بالسوط والسيف، وظَنَنَّا وقتها -إذْ كنَّا بسطاء- أنّنا قضينا على الظاهرة؛ حتى فاجأتنا المؤسسةُ العسكرية بحيازتها لكل مؤهلات فرعون وقارون وهامان مجتمعين: (السلطة والثروة والقمع)، فَأُسْقِط في أيدينا، ورُحنا نبحث عن عالم المثل الذي تَبَدَّى لنا في النموذج الغربيّ، فكانت المفاجأة التي لم تخطر لنا بِبَال، وإن لم تكن مفاجأةً عند من يُقال فيهم: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}، فانظرْ كيف صنعت الرأسمالية مع الحكومات “الديمقراطية”؟!
صدمة الأُمَم في اقتصاد الرِّمَم
لم يكن مدهشًا -برغم غرابته في ذاته- ما تحدثت عنه “نعومي كلاين” في كتابها “عقيدة الصدمة”؛ لأنّ “اقتصاد الكوارث” كان قد أفصح عن نفسه في مواقف كثيرة، كان من أبرزها كارثة التسونامي، الذي ضرب شواطئ إندونيسيا وجاراتها عام 2004م؛ حيث أتاحت الكارثةُ فرصةً لمن يستثمر المصائب في تستيف الثروات، وإذا كانت الكوارث متوانية متراخية تأتي على غير ترتيب؛ مما قد لا يطفئ ظمأ الرأسمالية؛ فلتكن الكوارث من صنع أصحاب القرار، وهنا تأتي الطفرة المذهلة: “اقتصاد الصدمة”، وهو يعني بكل بساطة: أن تصدم الناس بكارثة مروعة يفقدون معها الأمل في مجرد الحياة، ثم تعطيهم أملا منخفض السقف؛ يرضون به، وربما يصفقون لك ويصنعون لك تمثالا، وهنا جاءت الحروب التي تُفْتَعل افتعالًا ثم تَشْتعل اشتعالا؛ لا لشيء إلا لبيع السلاح، ونَفْض خزائن المعدات القديمة لجلب السيولة، ثم إعادة الإعمار، ومن الواضح أنّه لولا تعانق السلطة والثروة، لولا تحالف رأس المال والحكومات ما تحقق هذا، وهل يخفى علينا ما كان يحققه “رامسفيلد” وشركاؤه من مكاسب تحققت لهم بغزو العراق؟
ولا تندهش إذا وجدتَ مهندسَ اقتصاد السوق “ميلتون فريدمان” يؤسس لفكرة مفادها أنّ النيوليبرالية التي تعني الرأسمالية في أعتى صورها ليست حليفًا دائمًا للديمقراطية، إذْ بالإمكان أن تتعايش مع أنظمة شمولية، ثم يسعى مع “شلة شيكاغو” بالتنسيق مع الدولة الأمريكية ووكالة استخباراتها؛ لتغيير أنظمة ديمقراطية في أمريكا اللاتينية، ولِتَقَعَ الانقلابات العسكرية المروعة في الأرجنتين وشيلي والسلفادور ونيكاراغوا وغيرها؛ من أجل الإطاحة بحكومات لا تؤمن باقتصاد السوق ولا بالعولمة الاقتصادية.
الهولُ القادم
لكل عاقل أن يتخيل: ما الذي يمكن أن يحدث في حياة الناس لو آل الأمر إلى أن يمتلك أشخاصٌ أثرياء شركات عسكرية كبرى مثل “فاغنر” مثلًا، وهل يعجز هؤلاء عن ذلك؟ أليست أموالُهم تنوء مفاتيحُ خزائنها بالعصبة أولي القوة؟! أليسوا مؤثرين في القرارات السياسية إلى حدّ أنْ صار المتابعون بفهم ووعي يبصرون جيدًا اليدَ الخفية التي تحرك عجلة السياسة؟! ثمّ هل يتورعون؟ ولماذا؟ فهل تورعت الدول التي من المفترض أنّها أكثر التزامًا من الأشخاص بحماية الإنسان من بطش الإنسان؟ المسألة إِذَنْ قابلة للتحقق، وما الذي يمنع من تحققها ونحن نراهم يفاجئوننا بما لا يخطر على البال، وإذا تحققت فكيف سيتعامل معها القانون الدوليّ، الذي عجز أمام شركات أمنية مثل “بلاك ووتر” وغيرها، على الرغم من كونها أقل خطرًا من “فاغنر” التي هددت في ليلة ليلاء حكم “بوتين” صديق مؤسسها “بريغوجين”؟
هل يضع القرآن لهذه المعضلة حلًّا؟
وكما غفل الناس عن البعد الواقعيّ الخطير لعبارة {وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ} غفلوا عن الحلول التي وردت في سياق قصة بني إسرائيل مع قارون، فقد بقي قارون جاثما على صدرهم، وما انطبقت عليه “سنّة الأخذ” إلا بعد أن تحقق شرطها، وهو أنّ الناس قاموا بدورهم في “الانتفاض” عليه، وبذلوا وسعهم في زجره عن الإفساد في الأرض، هذا أحد المحاور المهمّة، أمّا المحور الثاني فيتمثل فيما اقترحه السياق على الخلق من ضرورة الاستعلاء على المفسدين وخوض الصراع ضد استعلائهم وانتفاشهم: {ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا}، وما يلزم لذلك من المقاطعة الصارمة، والاستغناء التام.