عاممقالاتمقالات فكرية

تعريب الدواوين في الدولة الإسلامية

فرج كندي

رئيس مركز الكندي للدراسات والبحوث

بقيت الدواوين في الدولة الإسلامية  التي كانت تنظم وتشرف على الشؤون المالية تتمركز في أغلب عواصم الأقاليم المفتوحة ولها فروع في مدن كثيرة منتشرة في أقاليم ومدن الدولة العربية الإسلامية.

بقيت هذه الدواوين تستعمل اللغات المحلية أو اللغات السائدة في الإمبراطورية الرومانية أو الإمبراطورية الفارسية اللتين توسعت على أنقاضهما الدولة العربية الإسلامية الوليدة.

فكانت لغة الدواوين في العراق هي اللغة الفارسية، ولغتها في الشام الرومانية، وفي مصر اليونانية والقبطية، واستمرت الحال على ذلك منذ عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي في عهده توسعت الدولة الإسلامية وتمددت في مساحات شاسعة من شمال أفريقيا غرباً إلى بلاد ما وراد النهر شرقاً، وعلى أثرها شرع في تدوين الدواوين لأول مرة في دولة الإسلام.

إلا أن هذه العملية صاحبها الاحتفاظ بالموظفين من غير العرب وأغلبهم من غير المسلمين من أهل الأقاليم المفتوحة؛ ما ساهم في بقاء لغات الأقاليم وسيادتها على لغة دواوين الدولة حتى عهد الخليفة الأموي  “عبدالملك بن مروان” الذي شعر بتناقض هذا الوضع مع شخصية الدولة ذات التوجه العروبي واعتمادها على العنصر العربي، وأن لغة الدولة الرسمية يجب أن تكون العربية؛ لأنها لغة القرآن مصدر الإسلام دين الدولة وعنوان هويتها وشخصيتها. 

وهذا الواقع -لغة الدواوين- لا يتناسب مع شخصية الدولة العربية الإسلامية، وأدرك خطورته على هويتها وسيادتها؛ فقرر الخليفة عبدالملك تغيير هذا الواقع غير الطبيعي ولا المقبول، فأصدر أوامره بتغيير لغة الدواوين إلى اللغة العربية وإزالة الحالة اللغوية الشاذة في الدواوين وغرابتها عن هوية وشخصية الدولة واعتماد اللغة العربية كلغة رسمية وحيدة في جميع الدواوين في كل مؤسسات الدولة.

وهذا ما عُرف بحركة  تعريب الدواوين التي كانت لها نتائج كبيرة وواسعة في ترسيخ اللغة العربية وانتشارها في ربوع الدولة الإسلامية المتعددة الأعراق والمترامية الأطراف.

كان رئيس ديوان الخراج بدمشق عاصمة الدولة الإسلامية هو سرجون بن منصور، وهو نصراني رومي، وكان محتكراً لهذه الوظيفة منذ عهد معاوية أول خلفاء بني أمية (تولى الخلافة 41 حتى 60هـ)، فأمر عبدالملك شخصاً عربياً هو أبو ثابت سليمان بن سعد الخشني أن يقوم بتحويل سجلات الديوان من اللغة الرومية إلى اللغة العربية.

شرع سليمان في تنفيذ مشروع التعريب في سنة 81هـ وأتمه خلال سنة واحدة، ولما أتم التعريب تولى سليمان رئاسة الديوان وعزل سرجون، وحينها قال سرجون كلمته الشهيرة لكُتَّاب الروم في الديوان: «اطلبوا المعيشة من غير هذه الصنعة»، ثم أمر عبدالملك بتوسع تحويل كل دواوين الشام إلى اللغة العربية.

في العراق ترأس الديوان رجل فارسي اسمه زاذان فروخ، وكان محتكر إدارة الديوان منذ فترة حكم يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ثاني خلفاء بني أمية، واستمر زاذان في منصبه إلى أن مات في زمن ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي للعراق، وكانت الدولة تتجه للتعريب؛ فعين الحجاج الثقفي والي العراق صالح بن عبدالرحمن بدلاً من زاذان بن فروخ.

أمر والي العراق الحجاج بن يوسف، صالح بن عبدالرحمن الذي كان يجيد اللغة الفارسية واللغة العربية معاً أن يحول ديوان العراق من الفارسية إلى العربية في زمن حدده الحجاج للانتهاء، فأتم صالح المهمة بنجاح واقتدار؛ ثم أمر الحجاج بتعريب جميع دواوين العراق من الفارسية والعربية.

ولم يكتف صالح بتعريب داوين العراق؛ بل عمل على تدريب وإعداد الكثير من الكتَّاب في العراق حتى قال عنه الكاتب المعروف عبدالحميد الكاتب: «لله در صالح، ما أعظم منته على الكتَّاب»!

أما في مصر، فتم التعريب في عهد الوالي عبدالله بن عبدالملك بن مروان الذي خلف أخاه عبدالعزيز على ولاية مصر، فتم نقل الديوان في مصر من اللغتين اليونانية والقبطية إلى العربية.

نجح مشروع عبدالملك بن مروان وتحقق تعريب جميع الدواوين في سائر البلاد الإسلامية، وأصبحت العربية اللغة الرسمية في جميع الولايات الإسلامية.

وبذلك أصبحت اللغة العربية اللغة الرسمية المعتمدة في دواوين الدولة الإسلامية، وكانت حركة تعريب الدواوين عاملاً مساعداً ورافداً كبيراً في نشر اللغة العربية بعد القرآن الكريم الذي هو لغة الدين والمصدر الأول للثقافة العربية والحافظ الأول للغة العربية ومصدر قوتها وعزتها وانتشارها في أقطار الدنيا، حيث انتشر المسلمون في ربوع الأرض إلى يوم الناس هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى