تقييم القيم … نيتشه إله الفوضى ( 1 )
هشام الشلوي
وَذي خَطَلٍ في القول يَحْسَبُ أنه مُصيبٌ فما يُلْمِمْ به فهو قائِلهُ
زهير بن أبي سلمى
وليس لي في تأليفه من الافتخار، أكثر من حسن الاختيار؛ واختيار المرء قِطْعَة من عقله، تدل على تخلفه أو فضله. إبراهيم بن علي الحصري القيرواني.
عرضت مقالتي تلك على نابهين من أقاليم ليبيا التاريخية؛ برقة وفزان وطرابلس، طارحا عليهم سؤالا: هل المقالة سهلة أم معقدة؟ وطلبت نصيحتهم بنشرها أم دسها على هون في مجاهل الحاسوب. والإجابة ما ترون من نشرها، وأشكرهم على حسن ظنهم.
مقدمتي الأولى:
ما كان يجب لأفكار ما بعد الحداثة أن تحتل مكانا في عالمنا العربي الإسلامي، لولا طبقة من المثقفين احتفوا بها دون تمحيص، أو سؤالِ أنفسهم عن مدى حاجة العالم العربي والإسلامي لها. الهزيمة النفسية والحضارية والابتعاد ثم الجهل بالمصادر الأولى للإسلام قد تكون عوامل حاسمة في توجه طبقة المثقفين إلى هذا الهراء والهذيان.
وسبب ذلك عندي أن عالمنا العربي والإسلامي لم يدخل كهف الحداثة؛ حتى يخرج إلى نفق ما بعدها، لأسباب ترجع إلى الانتكاسة العظيمة في عالم الحريات السياسية والثقافية، التي كبلت العقل المسلم عن التقدم، وبما أن ما بعد الحداثة في الغرب هو انقلاب على الحداثة بما تعنيه من قيم التقدم والأنسنة والديمقراطية وإخراج الدين من مسرح الحياة العامة إلى مضايق الضمير والحياة الخاصة، فما الذي سينقلب عليه العقل المسلم إذن؟!
القيم اليهودية المسيحية كبلت الحريات السياسية والفردية وأخضعتها للرقابة الصارمة، فجاءت الحداثة رافضة لتلك القيم المكبلة، ثم هُرعت ما بعد الحداثة إلى الانقلاب على ما سبقها لفشل الحداثة في الإيفاء بوعودها حسب مفكري ومنظري ما بعد الحداثة.
قيم القرآن وهدي نبينا صلوات الله وسلامه عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، أطلقت الحريات السياسية والدينية وروح البحث العلمي المثمر، وحررت الإنسانية جمعاء من القيود المصطنعة، نتيجة التحريف التاريخي لليهودية والمسيحية.
وللمفارقة كال نيتشة كل أنواع السباب لأولئك المقلدين أو النائمين في أحضان قيم الحداثة، واصفا أخلاقهم بأخلاق العبيد، فما بال بعض مثقفينا يستمرئون أخلاق العبيد ويتجرعون كأس الإهانة الحضارية في احتفاء عند مقبرة.
عموما بنى العقل الغربي الحديث يقينيات كبرى في العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجيا، يضاهي الإيمان بها الإيمانَ بالمسيحية واليهودية، منها فكرة الإنسان البدائي التي جاءت كمنتج لعملية تطور بيولوجي صارمة وانتقاء وبقاء للأصلح، وهذا التوجه يعارض كلية فكرة خلق الإنسان عندنا في الإسلام، وهو الذي خلقه الله بيده وأنزله إلى الأرض مسلحا بالإيمان باعتبار أن أول إنسان كان نبيا، وبالعلم باعتبار أن الله الذي خلقه، علمه الأسماء كلها.
مقدمتي الثانية
في فترات الانحطاط الثقافي والابتذال الفكري يلجأ الناس إلى الشعوذة بمعناها الثقافي، أي إجراء محاولات يائسة لمعالجة مسائل كبرى باستعارة شذرات من أنماط فكرية وثقافية لم تكن يوما مطروحة في بيئتهم الثقافية والأخلاقية. ومأتى ذلك في ظني هي دعاوى الكونية التي راجت مع العصور الذهبية للتنوير في القرون من السابع عشر وحتى التاسع عشر، إذ ظن آباء التنوير أنه يمكن تعميم النموذج الثقافي الغربي وأنماط العقل الغربي على عقول البشر كافة، وهذه مسألة لا يخفى أنها تستند إلى التبشير المسيحي رغم إعلان الطلاق البائن بين المسيحية والتنوير، إلا أن استعارات العقل الغربي من المسيحية لم تتوقف بل وتبادل المنافع، حتى في فرنسا أشد الدول الأوروبية لائكية وعداء للدين ومؤسساته.
جاءت فكرة إعادة تقييم المنجز الغربي كله المرتكز على العقل والتنوير وإزاحة الدين من المؤسسات العامة وحشره داخل الضمير الفردي، بعد سلسلة من النكسات كانت أعلاها الحروب التي راح ضحيتها ملايين البشر على الأراضي الأوروبية وخارجها، وأدناها سوء استخدام موارد الأرض والتغير المناخي والتلوث البيئي، وما بينهما فردانية مفرطة حولت المجتمعات إلى جزر متناثرة لاهثة متنافسة وفق قوانين الرأسمالية التي لا ترحم.
كانت الردة على التنوير والعقلانية والرأسمالية والليبرالية الغربية على الصعيد السياسي في شكل أنظمة راديكالية شيوعية وفاشية ونازية، منقلبة على الأسس والدعائم التي صنعها آباء التنوير، بدعوى أن التنوير أو الحداثة أحدثا شرخا عميقا في الدور الحضاري للجنس الآري.
الردة على العقلانية والحقيقة والمذهب الإنساني والديمقراطية لم تكن سياسية فقط، فقد اتخذت من الدراسات الثقافية وفروع العلوم الاجتماعية مجالا للتنازع ومحاولة هزيمة الحداثة، فيما عرف بمذاهب ما بعد الحداثة التي تلخصت رسالتها في أن لا حقيقة، وأن اليقينيات والسرديات الكبرى سواء كان مصدرها الدين أو العقل أو التاريخ هي مجرد أوهام.
لم يكتف رجالات ما بعد الحداثة بدور الرفض للمحددات والأسس التي بُني عليها العقل الغربي، بما في ذلك فكرة التقدم، بل وضعوا حلولا متشعبة ولا متناهية، خاصة في مجال الدراسات اللغوية والأدبية والفلسفة، والمساحة الغامضة التي بينها.
مقدمتي الثالثة … إزاحة الإزاحة
عاشت أوروبا عصورا طويلة على الرافد اليهودي المسيحي كمكون لشخصية الغربي، إذ أنه منذ ميلاده وحتى مماته يخضع المواطن الغربي لطقوس مؤسسية معروفة لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها.
أزاح الآباء المؤسسون للحداثة الدين من المؤسسات السياسية والثقافية، تاركين له حيزا داخل الضمير الفردي، كحل عملي إجرائي لحروب وصراعات دينية طويلة بين الكاثوليك والبروتستانت بمختلف طوائفها، حسبما يقول رفيق عبدالسلام. وهذه هي الإزاحة الأولى.
الإزاحة الثانية في الحضارة الغربية، فهي إعلان موت العقل والإنسان، بعد فشل هذا الأخير في تجنيب الإنسان الغربي خطر الانحلال والتفسخ وخوض الحروب العبثية. إذن ما الذي تبقى لنحيا من أجله أو ندافع عنه، تلك كانت هي الرسالة. والإزاحة الثانية كان بطلها فردريك نيتشه.
ولكن أود القول: إنني سأسعى لنقد نيتشه ومذهبه وتعريته وإيقافه أمام القارئ متجردا من لباس الهالة والعظمة والنبوة التي وسمه بها مثقفون غربيون ومقلدون لهم من العرب، أقول: سأسعى لذلك بالاتكاء الكامل على مؤرخين أمريكيين، لهما باع فيما يعرف بعلم الأفكار.
أولهما: ريتشارد وولين مؤلف كتاب (غواية المعقول … قصة الغرام الفكري بالفاشية من نيتشه إلى ما بعد الحداثة) ترجمة المرحوم محمد عناني.
ثانيهما: آرثر هيرمان مؤلف كتاب (فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي) ترجمة المرحوم طلعت الشايب.
بعد المقدمتين: الأولى والثانية، مقتبس بالكامل بتصرف يسير من الكتابين المشار إليهما أعلاه.
نيتشه القابض على مستقبل البشرية
يقول وولين في كتابه غواية اللامعقول كأحد أدلته على جنون عظمة نيتشه: إن نيتشه بعث بخطاب إلى أخته إليزابيث فورست
نيتشه يخبرها فيه إنه يقبض دون مبالغة على مستقبل البشرية في راحة يده. وقال لأستاذ الموسيقى كارل فوخس: إنه مادام الإله القديم قد تنازل عن العرش، فسوف أتولى أنا حكم العالم من الآن فصاعدا.
يتبع