مقالاتمقالات فكرية

تهنئة غير المسلمين بأعيادهم .. مدخل فكري للمنظور الفقهي

أ. مراد فياض

قبل شهر ونيف وافق التاريخ فترة أعياد الكريسماس في العالم الغربي، وكما معظم الأعوام شهدت تلك الفترة جدلا متجددا حول قضية جواز أو عدم جواز تهنئة المسلمين لغير المسلمين بهذا العيد. وكعادة هذه المواضيع الجدلية، ينقسم الناس فيها إلى قسمين (وأحيانا أكثر). قد تتفاوت نسبة كل فريق من حيث عدد المتبنّين لهذا الرأي أو ذاك، وقد تتفاوت نسبة من يتكلم بعلم لدى كل طرف؛ لكن السؤال الذي نود الخوض فيه هنا هو: لماذا هذا الانقسام أساسا؟ بمعنى محاولة تشخيص ما هي المنطلقات المختلفة التي أدت إلى تبني الرأيين المختلفين في هذا الموضوع، قبل محاولة الوصول إلى أي الرأيين أصح.

موقفان متباينان

يرى أحد الرأيين اليوم أن تهنئة غير المسلمين بأعيادهم ولو كانت أعيادا دينية أمرًا لا بأس به، حيث يفرق أصحاب هذا الرأي بين التهنئة بالمناسبة الدينية وبين المشاركة في هذه المناسبة، ويعتبرون أن التهنئة دون المشاركة أمر جائز ويقع تحت باب البر والقسط الوارد في الآية القرآنية مع غير المسلمين خصوصا أهل الكتاب ممن لم يقاتلوا المسلمين في دينهم وبذلك لا ينهى الله عنهم. وأصحاب هذا الرأي بهذا لا يعتبرون التهنئة في ذاتها إقرارًا على عقيدة كفرية. من ناحية أخرى يرى أصحاب الرأي الثاني أن التهنئة بمعايدة دينية ضمنيا فيه إقرار لعقيدة تخالف التوحيد الخالص والرسالة الخاتمة، تعتبر تهنئة كهذه من الأقوال التي يخشى على صاحبها من الوقوع في الكفر؛ حتى ولو لم يشارك بالفعل الكفري حسب ما يؤكدون.

متى وكيف بدأ الاختلاف؟

في الحقيقة يمكن اعتبار أن الحكم من تهنئة غير المسلمين بأعيادهم الدينية أصبح من المواضيع الخلافية في الزمن المعاصر، والرأي العام الفقهي السائد قبل ذلك كان عدم جواز ذلك؛ بل إن كثيرًا من أهل التخصص يؤكدون أن هذا كان سابقا من قضايا الإجماع التي لا خلاف عليها، وهذا الرأي مبني على فكرة جوهرية واضحة وصلبة وهي أن تهنئة غير المسلم بعيده “الديني” تحديدا يعتبر إقرارا لتلك العقيدة الدينية التي قطعا يختلف معها الإسلام، وإقرار المسلم لعقيدة دينية مخالفة يدخله في مناطق خطيرة في موقعه من ثنائية الإيمان والكفر. ولذلك كان موقف الفقهاء تاريخيا جازما في موضوع المعايدة “الدينية” على وجه الخصوص، في حين أن المعايدات الاجتماعية لها مبحث مفصل آخر. ولهذا يستهجن المنكرون للتهنئة مجرد الجرأة على فتح باب المعايدة الدينية سواء كانت بتهنئة أو مشاركة.
وواقع الحال أن ذلك الموقف الجازم من المعايدة الدينية لا نعلم أنه كان في سابق الأزمنة مثار سخط من أحد، فمبدأ لكم دينكم ولي دين كان مظلة تعايش بين المسلمين والطوائف الدينية الأخرى الذين يشتركون معهم في الأرض والوطن، وكان كل أصحاب دين متمسكون بدينهم، ويمارسون شعائرهم أو طقوسهم وفق معتقداتهم بشكل منفصل؛ حيث يعتبر كل أهل دين الاحتفاء بعيدهم الديني جزءًا من عبادتهم؛ لذلك لا يتوقعون من غيرهم الاحتفاء به، فلكل أصحاب دين عقيدتهم وأعيادهم الدينية الخاصة بهم.
كان ذلك في زمن ما قبل الحداثة؛ أما في زمن الحداثة وما بعدها فنحن عمليا بصدد سياق مختلف تماما. فإذا أخذنا قضية الكريسماس أو أعياد الميلاد كمثال أساسي (عمليا هو المثال الوحيد في تجدد هذا الجدل السنوي)، سنجد أن القضية في العصر الحالي لم تعد دينية خالصة كما في السابق، أي لم تعد قضية مسيحية مجردة، أولا هذه المعضلة نشأت مع تكوّن جاليات لأقليات مسلمة في بلاد الغرب التي تعتبر(نظريا) مسيحية، وهو أمر مستحدث لم يكن له سابقة تاريخية، أن تستوطن أعداد كبيرة من المسلمين كجالية أقلية في بلد غالب أهله من دين آخر.
ثانيا: وهنا يأتي التعقيد الأهم أنه في هذا الزمان الغالبية من النسمة الذين يحتفلون بالكريسماس ويعتبرون مسيحيين؛ لم يعودوا فعليا مسيحيين بالمعنى المتعارف عليه تاريخيا. فالحقيقة أنه في آخر نصف قرن على الأقل، وربما أكثر، أصبح معظم الغربيين المسيحيين؛ مسيحيين اسمًا فقط، لا يكاد غالبهم يمارس من المسيحية النصرانية شيئا، ولا تزيد احتفالاتهم بالأعياد الدينية، مثل: الكريسماس عن كونها تقاليد موروثة من آبائهم أكثر منها عبادة دينية؛ بل إنه في السنوات الأخيرة أصبحت النسبة الكبرى من الغربيين يعرفون أنفسهم أنهم رسميا لا دينيون حتى وإن استمروا في الاحتفال بمناسبات هي في الأساس مسيحية؛ ولذلك قد يستشعر بعضهم وبعض حتى المسلمين ممن يعيشون معهم بشيء من الاستغراب تجاه رفض كثير من المسلمين مجرد ذكر عبارة تهنئة كمجاملة على عيد، عمليا أصبح موروثًا ثقافيًا بالدرجة الأولى، ولا يتقبلون كثيرا التفريق بينه وبين مناسبة أخرى غير دينية مثل يوم الشكر في أمريكا الشمالية، الذي لا يتحرج معظم المسلمون في التهنئة به باعتباره مناسبة اجتماعية محضة لا أساس دينيًا لها.

التهنئة بالكريسماس إقرار لعقيدة مسيحية .. أم للعلمانية؟

ينطلق الرأي الفقهي القائل بعدم جواز التهنئة بالكريسماس أنه إقرار ضمني بمفهوم ولادة المسيح (عليه السلام) بصفته ابنا للرب حسب المعتقد المسيحي وليس ولادة نبي. ولذلك فالتهنئة هنا محرمة؛ بينما يقول الرأي المخالف والجديد نسبيا إنه مجرد مجاملة اجتماعية لشركاء في البلد والحياة اليومية من معارف وأصدقاء وجيران، وربما حتى أقارب لدى البعض وبين الرأيين ينشأ جدل عادة ما يكون محمومًا. لكن الأمر الذي لا يعطى اهتماما كافيا أن هناك فجوة كبيرة بين منظور كل منهما ابتداءً، فالأول يتكلم عن مناسبة دينية بحتة، مدى استمرار التعاطي معها عمليا كعقيدة دينية قد يحتاج إلى نقاش في ذاته، والثاني يتفاعل مع ظاهرة الجزء الأكبر من المحتفلين الذين أصبح لسان حالهم يتعامل مع المناسبة كحالة ثقافية وليس عقدية، وبما أن بعض هؤلاء قد يهنّئ المسلمين بعيدهم، فهو يتوقع المعاملة بالمثل من باب الاحترام المتبادل للثقافات، وهنا قد يكون اللغم الأكبر الذي لا يتم الالتفات إليه.
التعامل مع الأعياد الدينية بشيء كبير من المرونة والبساطة وعدم وضع البعد التعبدي كنقطة مركزية فيه؛ هو جزء من ظاهرة أوسع متعلقة بالتعامل مع الدين بشكل عام في مجتمعات الحداثة وما بعد الحداثة العلمانية؛ وهو اعتبار الدين جزءًا من الموروث الثقافي ليس إلا. فلا هو منهج حياة ولا حالة تعبدية مستمرة تحدد الصواب والخطأ لأتباع الدين، وليس وعاءً لأعمال الفرد تقاس فيه حسناته وسيئاته؛ إنما مجرد بعد اجتماعي أقرب للفلكلور، حيث ينبغي لكل أصحاب دين أن يتقبلوا ديانات الآخرين؛ وعندما نقول يتقبلوا، فهو هنا لم يعد تقبّلًا من مبدأ لكم دينكم ولي دين، بحيث يتعايش أصحاب الديانات في سلام مع قناعة كل صاحب دين بدينه إلى أن يفصل الله بينهم يوم القيامة؛ لا إنما هو تقبل تحت إطار العقيدة العلمانية الضاغطة بحيث يتجاهل الجميع دينهم كمنهج حياة في القضايا الكبرى للمجتمع، ويقرون لبعضهم بتساوي عقائدهم كخيار ثقافي لكل منهم لا تفاضل فيه، ومن هنا ينشأ الضغط الذي قد يمارسه أحيانا بعض المسلمين تلقائيا على أنفسهم قبل حتى أن يمارسه غيرهم عليهم؛ نتيجة للثقافة العلمانية المهيمنة بشكل عام. هذا الضغط الذي يطالب بتهنئة المسيحيين (مجازا) بالكريسماس؛ كما يهنئ بعضهم المسلمين بعيد الفطر أو رمضان .. إلخ. وهنا واقعيا فإن الخطر العقدي بالتهنئة قد لا يكون في إقرار عقيدة ولادة ابن الإله، بل ربما يكمن الخطر بإقرار ضمني لعقيدة موت الإله، حسب تعبير نيتشه.
نعم يجب أن نطرح السؤال بصراحة؛ هل البحث عن مخرج فقهي للتهنئة يقع بشكل حصري في دائرة البر والقسط مع غير المسلمين؟ أم هو محاولة للتعايش مع الثقافة العلمانية الغربية الضاغطة التي جعلت من الكريسماس حدثا تجاريا ثقافيا استهلاكيا أكثر منه معتقدا دينيا؟ إذا كانت الأولى، فلماذا لا يثار الجدل عند قدوم موسم أعياد أصحاب الديانات الأخرى التي لا يعلم أحد عنها شيئا ولا حتى موعدها؟ بل الكريسماس نفسه، لماذا يثار الجدل كل عام في نهاية ديسمبر حسب موعد الكريسماس، وفق تقويم المذاهب المسيحية الغربية الكاثوليكية والبروتسانتية، وليس وفق تقويم المذاهب المسيحية الشرقية الأورثودكسية والقبطية التي تحتفل به في شهر مختلف، وإذا كانت الثانية، أي محاولة للتعايش مع الثقافة العلمانية الغربية الضاغطة، فهل خطر تهميش مركزية الدين في وعي المسلم لا شعوريا بجعل الدين مجرد موروث ثقافي، أمر أقل فتكا من خطر الخلط بين عقيدة نبوة المسيح عليه السلام وعقيدة ألوهيته؟
كما ذكرنا آنفا تعتبر هذه القضية إلى حد كبير من النوازل المستجدة بسبب وجود أقليات مسلمة في الغرب المسيحي تاريخيا، العلماني شبه الملحد حاليا، والعلماني الملحد تماما في المستقبل القريب، وقد تم استيراد هذه القضية أيضا للبلدان المسلمة ذات الأقليات المسيحية كملف جديد لمحاولة شرعنة علمنة المجتمعات من قبل بعض القوى السياسية تحت إطار الدولة القومية المعاصرة. ولسبب ما يوجد حتى من يحاول أن يصدّرها لبلدان إسلامية لا يوجد بها أساسا أقليات غير مسلمة، وهو انعكاس لحالة التماهي مع ما يسميها إبراهيم السكران سلطة الثقافة الغالبة.
الشاهد من القول، إن التهنئة بعيد الميلاد المسيحي قد تكون فعلا أو ربما قد لا تكون إقرارا لعقيدة التثليث النصرانية .. لكن النقاش بين أصحاب الرأيين يجب ألا يتوقف هنا لدى المتخصصين من أهل الاستنباط الفقهي للفتوى، إنما لابد أن يتم ردم الفجوة بين المنظورين الأوليين واستكمال المدارسة في الموضوع بشكل أعمق، هل واقع المعايدة وفق السياق الحالي إقرار لعلمنة العقيدة أم لا؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى