اجتماعيةمقالات

ثقافة الاختلاف أسبابه وآدابه

فرحات الهوني

إن الاختلاف سنة كونية جعلها الله في مخلوقاته جميعاً ، وإن كانت المخلوقات التي من جنس واحد لا تختلف عادة في طبائعها أو سلوكها , أما البشر فنجد فرقا بينهم فهناك اختلاف من إنسان لآخر نفسياً وسلوكياُ ومجتمعياً .

وقد حكى لنا الله سبحانه عن سيدنا موسى وسيدنا هارون عليهم السلام كيف أن سيدنا موسى تعامل مع بني إسرائيل بالحزم وأن سيدنا هارون راعى نفسيتهم واحتمال حدوث فرقة بينهم فأخذهم بالين ، وكذلك كيف تباينت الأفهام عند سيدنا داود وسيدنا سليمان في مسالة في قصة الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم ومن تم اختلف الحكم الصادر عنهما في هذه القضية …وما ورد من أختلف صحابة رسول الله صل الله عليه وسلم في كثير من القضايا والرسول صل الله عليه وسلم بين ظهورهم منها:

– قصة أسرى بدر  والخلاف بين سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر رضي الله عنهما.

– وفي قصة بني قريظة كيف اختلاف الصحابة في صلاة العصر

– وقد اختلف ابن عباس مع السيدة عائشة في رؤية الله ليلة إسراء النبي صل الله عليه وسلم.

– ومن اختلاف الصحابة اختلافهم في فهم النصوص ومقاصدها وخاصة بعد وفاة النبي صل الله عليه وسلم ، وانتشر الصحابة في المدن التي فتحوها وحمل كل واحد منهم فقهه وفهمه لهذه النصوص وتأسست على هذا مدراس فقهية متنوعة ونشأت عليها مذاهب مازالت إلى الآن لها أتباعها وعلمائها .

و الاختلاف نوعان: اختلاف مذموم، واختلاف محمود.

1.الاختلاف المذموم: وهو اختلاف تضاد، ويرجع إلى أسباب خلقية متعددة، منها: الإعجاب بالرأي، وسوء الظن والمسارعة إلى اتهام الآخرين بغير بينة ، والتعصب لأقوال الأشخاص والمذاهب ، وقلة العلم في صفوف كثير من المتصدرين، وعدم التثبت في نقل الأخبار وسماعها.

2.الاختلاف المحمود: وهو اختلاف تنوع، وهو عبارة عن الآراء المتعددة التي تصب في مشرب واحد، ومن ذلك ما يعرف بالخلاف الصوري، والخلاف اللفظي، والخلاف الاعتباري. وهذه الاختلافات مردها إلى أسباب فكرية، واختلاف وجهات النظر، في بعض القضايا العلمية كالخلاف في فروع الشريعة، وبعض مسائل العقيدة التي لا تمس الأصول القطعية. وكذلك الاختلافات في بعض الأمور العملية كالخلاف في بعض المواقف السياسية، ومناهج الإصلاح والتغيير .

– أسباب الاختلاف ونوجزها في:

1.أما طبيعة الدين فقد أراد الله أن يكون في أحكامه المنصوص عليه والمسكوت عنه، وأن يكون في المنصوص عليه: المحكمات والمتشابهات، والقطعيات والظنيات، والصريح والمؤول، لتعمل العقول في الاجتهاد والاستنباط، فيما يقبل الاجتهاد.

2.أما طبيعة اللغة فإن نصوص القرآن والسنة جاءت على وفق ما تقتضيه اللغة في المفردات والتراكيب، ففيها اللفظ المشترك الذي يحتمل أكثر من معنى، وفيها ما يحتمل الحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والمطلق والمقيد.

3.أما طبيعة البشر فقد خلقهم الله مختلفين، فكل إنسان له شخصيته المستقلة، وتفكيره المتميز، وميوله الخاصة، ومن العبث صب الناس في قالب واحد ، ولكن ما يغيب عنا ونحتاج التذكير به هو الآداب التي تضبط هذا الاختلاف أي كيف نتعامل أو نتعايش مع من خالفنا في الرأي أو المسائل التي نرها صواب ، ذكر العلماء الأفاضل عدة نقاط منها:-

– أن الاختلاف سنة جُبل الناس عليها نفسياً وفكرياً وسلوكياً.

– أن اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم هو نتاج حضورهم ونقلهم وفهمهم ، فما سمعه صحابي ربما لم يسمعه الآخر وما نقل ربما لم يصله.

– أن المذاهب الفقهية هي ما وصل لإمام المذهب أو ما نتج عن فهمه واجتهاده.

– منها نعلم أن ما وصلني يحتمل الخطأ والصواب فربما هناك من العلماء من قدح فيه. – ونعلم كما قال الأمام احمد بن حنبل: “ليس هناك إجماع فربما هناك من خالف ولم نعلمه” وكان يأخذ بالجمهور.

– جميع أئمة المذاهب والعلماء رغم اختلافهم لم يفسقوا ولم يكفروا ولم يبدعوا مخالفيهم ، لأنهم يعلمون أن الاختلاف مناط اجتهاد يخضع للصواب والخطأ.

ومن هذا الاختلاف ما نراه اليوم وهو اختلاف المدارس الفكرية والتي اتفقت على أصول الإسلام وسلفيته و اختلفت على فهم الواقع التي تعيشه هذه المدرسة فكانت أقرب ما يكون إلى مدرستين مدرسة ظاهرية ومدرسة مقاصدية:

– سلفية الاحتواء: وهي تمثل المدرسة الظاهرية تريد أن تعيش بحيثيات القرون الأولى من حيث الفهم والهدي الظاهر، وتبدع وتفسق كل جديد أو اجتهاد يخالف مدرستهم وهم من ينتمون للسلفية اليوم .

– سلفية المضمون: وهي تمثل المدرسة المقاصدية تقبل التجديد في جميع مناحي الحياة بضوابط شرعية وتعيش واقعها ومشاكله بمنهجية الشمولية يقدم فيها رأي السلف بعد الكتاب والسنة وإلا لم تجد فتجتهد وفق شروط الاجتهاد ومعطيات الواقع ، وفقه المآلات ، وفقه الموازنات .

  • نستعرض بعض أئمة الإسلام في الاختلاف

يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: “وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت أغراضهم و افهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بغض وعدوانه”.

ويقول الحافظ بن رجب : “ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم وكل منهم يظن أنه يبغض لله وقد يكون في نفس الأمر معذوراً وقد لا يكون معذوراً بل يكون متبعاً لهواه” .

قال الشافعي : ” ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة ” وقال : “ما ناظرت أحداً إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معي اتبعني وإذا كان الحق معه اتبعته” .

والإمام الشاطبي يقول “فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلفت الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء”.

وصف الشيخ تقي الدين بن تيمية “من يوالى موافقه ويعادي مخالفه , ويكفر ويفسق مخالفه دون موافقة في مسائل الآراء والاجتهادات ويستحل قتال مخالفة بأنه من أهل التفرق والاختلاف”.

الضوابط العلمية للاختلاف

  1. رد الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ ( النساء 59. ) ، شريطة أن نعود ونستنبط بالطرق التي استنبط بها علماؤنا السابقون، وليس بالأهواء أو بالاعتساف.
  2. التفريق بين القطع والظن في الأدلة والتركيز في المحكمات لا المتشابهات، فمن المعلوم أن النصوص بعضها ظني الثبوت وظني الدلالة، وبعضها ظني الثبوت قطعي الدلالة، وبعضها قطعي الثبوت ظني الدلالة، وبعضها قطعي الثبوت قطعي الدلالة. فقطعية الثبوت هي القرآن الكريم والسنة المتواترة.

3.إن من أراد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فلا بد له أن يطلع على خلافات العلماء وأدلة كل منهم حتى لا ينكر على الناس أمرًا هم متبعون فيه علماء أفاضل.

  1. تحديد المفاهيم والمصطلحات التي يدور حولها النقاش إذ يجب أن تكون واضحة جلية وهو ما يسميه العلماء تحرير موضع النزاع فكثير من النقاشات التي تقدم اليوم مردها إلى خلاف في اللفظ.
  2. النظرة الشمولية: فلا بد من الجمع بين كل ما ورد فيما يخص المسألة الواحدة لتحريرها تحريرًا جليًّا واضحًا. وأرى ألا ننساق وراء شيخ واحد نقدسه أو عالم واحد نعظمه ولا نلتفت إلى سواه وإلا دخلنا في محظور شرعي.

6.النظر في المقاصد واعتبار المآلات؛ فمسألة المقاصد الإسلامية لها دور كبير في تيسير المعاملات وتسهيل العمل في هذا الزمن.

7.التعاون في المتفق عليه؛ فإن مشكلة الأمة الإسلامية اليوم ليست في ترجيح أحد الرأيين أو الآراء في القضايا المختلف فيها بناءً على اجتهاد أو تقليد ، فالواقع أن الخطأ في هذه القضايا يدور بين الأجر والأجرين ، إنما المشكلة في انتشار أشكال الفساد والحرام من دون محاولة للحد منها , إن مشكلاتنا اليوم كثيرة ومتعددة احتوت الظلم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والتفسخ والانحلال وهناك أمراض جديدة لم نكن نألفها، فلماذا لا نعمل على ما اتفقنا عليه وندع الخلافات ونواجه الخطر الداهم اليوم خطر التمزق، و التدهور الأخلاقي والتخلف الحضاري .

والاختلاف موجود منذ بَدء الخليقة، فلا يُمكن جمعُ البشر جميعًا على كلمة واحدة أو رأي واحد، ولذلك قال العليم الخبير: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [هود: 118، 119]؛ قال ابن كثير: “أي ولا يزال الخلفُ بين الناس في أديانهم واعتقادات مِللهم ونِحلهم، ومناهجهم وآرائهم؛ قال الحسن البصري: الناس مختلفون على أديان شتى، إلا مَن رَحِمَ ربُّك، فمَن رَحِمَ ربُّك غيرُ مختلف”[2].

أما اليوم فنجد أنفسنا قد شرَدنا كثيرًا عن الجادة، وأصبح البعض يسطو على أفكار البعض الآخر، ويَحجمها تارة، وتاهتْ بنا معطياتُ العصر عن الحقيقة الناصعة، فسلَكنا دروبَ الفرقة المنبوذة، حتى تشدَّد البعض وتحيَّز وتعصَّب، فغاب الحوار القائم على النقاش، وقَبول الاختلافات الفكرية والفقهية الإسلامية وغيرها، بروح أخوية عالية، كما كان عليه السلف الصالح؛ يقول يونس الصدفي: “ما رأيتُ أعقلَ مِن الشافعي؛ ناظرتُه يومًا في مسألة تم افترَقنا، ولقيتُه فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتَّفق في مسألة، قال الذهبي: هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفِقه نفسه، فما زال النُّظراءُ يختلفون”[3].

نخلص مما سبق أن آداب الاختلاف لدى الصحابة الكرام كانت مبنيَّة على شدة احترام بعضهم البعض الآخر، فكانوا بذلك مثالًا لإكرام كبرائهم وفقهائهم، لا يجاوز أحد فيهم قدر نفسه، ولا يغمط حقَّ أخيه، وكلٌّ منهم يرى أن الرأي مشترك، وأن الحق فيما ذهب إليه هو المرجوح، ولا مانع أن يكون ما ظنه راجحًا هو المرجوح، ولاشيء يمنع من أن يكون ما ظنه مرجوحًا هو الأرجح، كما كان من آدابهم التسليم للحق بالحق، مع التمسك بالأخوة الإسلامية، والدعوة لها قبل الاختلاف، وما نظرتهم إلى استدراك بعضهم على بعض إلا من باب المعونة والمشورة يُقدمها المستدرك منهم لأخيه، وليس نقدًا يصوبه عليه؛ لأنه لا سياسة لهم دنيوية إلا نشر الدعوة ونصرة الرسالة النبوية بأسلوب عقلاني حضاري مجرد عن هوى النفوس؛ لأن آدابهم وسماتهم عند الاختلاف آدابُ الإسلام، لا تفارقهم حين الدعوة إلى الحق، ولا يتجردون عنها حين الأخذ والرد.

وعن عمر بن عبد العزيز قال: ما سرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة. قال وهذا يدل على أن المراد اختلافهم في الأحكام

Back to top button