مقالاتمقالات تربوية

ثقافة الاختلاف في المنهج التربوي الإسلامي

أ. فرحات الهوني

هناك تحديات تواجه المسلمين، أقلها من الخارج وأكثرها من الداخل، وهي آفات تنخر في كيان الأمة الإسلامية، فمن هذه التحديات غياب أو تغييب ثقافة الاختلاف وما نتج عنها من تمزق وتفرق لم يكن في أسلافنا رضوان الله عليهم، وانتشرت ثقافة رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأيي غيري خطأ لا يحتمل الصواب، وذهبت كل طائفة تظن معها الحق المطلق.
فعندما نرى اختلاف المفسرين في تفسير بعض آيات القرآن وهو كلام الله، كذلك اختلاف الفقهاء في تفسير ما ورد من السنة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلاف  آليات الاستنباط لديهم ومدارسهم الفقهية، وكيف نشأت مدارس مثل مدرسة الرأي ومدرسة الأثر أو الظاهرية والمقاصدية، ومن يعمل بحديث الآحاد ومن يرفضه، ومن يأخذ بالقياس ومن يأخذ بعمل أهل المدينة…وغيرها، كذلك اختلاف المحدثين في شروط الأخذ بالحديث ومن يصحح حديثًا ويضعفه آخر ومن يجرح راوٍ ومن يأخذ عنه،  وتوارث ذلك أتباع ومقلدون وأجيال ومن طلاب العلم، حتى سارت بهذا الاختلاف الركبان إلى الأمصار والمدن البعيدة، وأصبحت هناك مذاهب قائمة على هذا الاختلاف، والواقع أن كلمة مذهب لا تعني إلا (وجهة نظر فقيه ما في فهم النص السماوي)، ووجهة النظر هذه لا عصمة لها ولا قداسة، إنها تفكير بشري في فهم الوحي الإلهي،
يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين: “المسلمون متفقون على أن كتاب الله وسنة رسوله هما مصدر التشريع، وأنهما المرجع الأوثق والأوحد لطالب الحق وناشد الرضوان الأعلى، وليس بعد قول الله ورسوله مجال لاقتراح آخر، أو مسلك مغاير.
ولهذا جاء في المنهج التربوي الإسلامي “وكل أحد يؤخذ منه ويهجر إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكل ما أتى عن السلف رضوان الله عليهم موافقا للكتاب والسنة قبلناه، وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالاتباع، ولكنا لا نعرض للأشخاص فيما اختلف فيه، بطعن أو تجريح، ونكلهم إلى نياتهم وقد أفضوا إلى ما قدموا”.
وهذه ثقافة سلفية، فمن حق الفقهاء أن يختلفوا لتفاوت أنظارهم في شتى الأدلة، ويجب أن نقبل هذا الاختلاف دون تشنج أو تشاؤم، ولا يجوز أن نرتب عليه شقاقا ولا تحزبا ولا تحاقدا.
إن صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام أمضى نتائج الاجتهاد وقبلها، فقد صح عنه أن من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر، أي أن كل مجتهد مأجور.
والجميع يعرف قصص الأعلام من العلماء وكيف يتقبلون الآراء الأخرى وكيف يثنون على بعضهم بعضًا.
ولهذا جاء في المنهج التربوي الإسلامي: “والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومه ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق الفقهي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب”
وهذا التعصب كما يقول الشيخ محمد الغزالي: “لقيت كثيرين، ودرست أحوالهم النفسية والفكرية، فوجدت آفتين تفتكان بهم:
الآفة الأولى: العجز العلمي، أو قلة المعرفة يحفظون نصا وينسون آخر، أو يفهمون دلالة للكلام هنا ويجهلون أخرى وهم يحسبون ما أدركوه الدين كله.
الآفة الثانية: في التعصب المذهبي وسوء النية، ووجود أمراض نفسية دفينة وراء السلوك الإنساني المعوج، ويغلب أن تكون آفات الظهور والاستعلاء أو رذائل القسوة والتسلط.”
“إلا أن الفقه المذهبي مر بأدوار بعدت به آخر الأمر عن منابعه الأولى، فقادة المذاهب كانوا يشرحون الكتاب والسنة، ويعدون شروحهم اجتهادا مقنعا لهم ولمن معهم، ولكنهم ما رأوا قط الصواب حكرًا عليهم، ولا عادوا غيرهم فيما فهموه هم.
ثم جاء الأتباع أخيرا فأخذوا أقوال أئمتهم على أنها الأصل الذي يشرح، ونظروا إليها كأنها الدين الذي يتبع.
ونشأ عن هذه جفوة بين مقلدي المذاهب المختلفة، كما نشأت جفوة بين كتب الحديث وكتب الفقه.
وهذا العوج الثقافي أضر كثيرا بأمتنا، إننا نعلم أن لكل إمام نزعته العقلية ومنهجه الخاص في الاستدلال، بيد أن أحدًا منهم لم يرَ الآخرين دونه، كما أن شرف أي إمام في ارتباطه بالكتاب والسنة معا”.
ولهذا حتى تنضبط المسائل وفق إطار صحيح لطلاب العلم والمقلدين والأتباع والخروج من آفات التعصب جاءت قاعدة في المنهج التربوي الإسلامي تقول: “ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماما من أئمة الدين، ويحسن به مع هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلة إمامه، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صح عنده صدق من أرشده وكفايته، وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر”.
وبعيدًا عن اللغط وكثرة المراء والجدال في مسائل افتراضية أو التي لا يبنى عليها عمل وإنما تستهلك الأمة ولا تقدم لها شئيا وقد نبه المنهج التربوي الإسلامي أبناء الأمة إلى الابتعاد عن هذا النهج والدخول في دهاليز الجدال والمراء والمناظرة فقال: “وكل مسألة لا يبنى عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعا، ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التي لم تقع، والخوض في معاني الآيات القرآنية الكريمة، التي لم يصل إليها الفهم بعد، والكلام في المفاضلة بين الصحابة رضوان الله عليهم وما شجر بينهم من خلاف، ولكل واحد منهم فضل صحبته وجزاء نيته وفي التأويل مندوحة”
يقول سيد قطب رحمه الله: “وعى الصدر الأول هذا المنهج واتجاهه، وفي حدود القضية فلم يكونوا يفتون في مسألة إلا إذا كانت وقعت بالفعل ، وفي حدود القضية المعروضة دون تعصب للنصوص، ليكون للسؤال والفتوى جديتهما وتمشيهما كذلك مع ذلك المنهج التربوي الرباني”
أما اليوم فنجد أنفسنا قد شرَدنا كثيرًا عن الجادة بابتعادنا عن هذه الثقافة، وأصبح البعض يسطو على أفكار البعض الآخر، ويَحجمها تارة، وتاهتْ بنا معطياتُ العصر عن الحقيقة الناصعة، فسلَكنا دروبَ الفرقة المنبوذة، حتى تشدَّد البعض وتحيَّز وتعصَّب، فغابت ثقافة الاختلاف وغاب معها الحوار القائم على النقاش، وقَبول الاختلافات الفكرية والفقهية الإسلامية وغيرها، بروح أخوية عالية، كما كان عليه السلف الصالح؛ يقول يونس الصدفي: “ما رأيتُ أعقلَ مِن الشافعي؛ ناظرتُه يومًا في مسألة ثم افترَقنا، ولقيتُه فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتَّفق في مسألة، قال الذهبي: هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفِقه نفسه، فما زال النُّظراءُ يختلفون”، وقد قيل “الاختلاف لا يفسد للود قضية”
وأخيرا فمن الثقافة معرفة أن الاختلاف نعمة ومصدر غنى لا يمكن سوى أن يساعد على بروز أنماط تفكير جديدة، ويتجاوز من يعتقد أن الحقيقة وحيدة ومطلقة وهي غالبا ما تكون بجانبه، فعندما تتعدد أفهام الناس بخصوص مفهوم الاختلاف يكون الإثراء والإبداع والتقارب من الحقيقة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى