مقالاتمقالات الرأيمقالات تربوية

ثمانون : العلامة الشيخ الصادق الغرياني مفتي ليبيا

الشيخ العلامة الصّادق الغرياني
الشيخ العلامة الصّادق الغرياني

أ. وليد المغربي

مع هذه الأيام يبلغُ الشيخ العلامة الصّادق الغرياني -رعاه الله- ثمانين عامًا ميلاديا؛ فهو من مواليد 8-12 /1942م، ونحو ثلاثٍ وثمانين سنة هجريّة من عمره المبارك.

مَن يعرف العلم والعلماء في بلادنا يدرك أن العلامة المفتي تميّز بصفات جعلت منه مرجعةً فذّة، وقلّما اجتمعت في عالمِ إلا ارتفع وساد.

• قد شهِد أقرانه من العلماء أنه مِن أعلم الناس في بلادنا، وبالأخص في الفقه المالكي، وعلى حدّ تعبير شيخنا العلامة حمزة أبو فارس -رعاه الله- “معندنش خوه في ليبيا”- ليس له مثيل ببلادنا!.
ويُسلِّمُ له في الفقه الجميع.

• الشيخ الصّادق سليل بيت علم تلقّى فيه الأبناء عن الآباء العلم والتربية، فوالده من أهل العلم قد درس في معهد أحمد باشا الدّيني، وجده العلامة علي الغرياني شهرته عمّت الآفاق، وأخو جده الشيخ محمد الكبير، ووالد جدّه الشيخ علي أبوبكر عالم معروف، وتستطيع النظر إلى كتاب أعلام ليبيا للعلامة الطّاهر الزاوي- رحمه الله- لترى ترجمته، وحديث المُترجِم عن عراقة هذا البيت في العلم وأصالته.

• درس في أعرق مدارس العلم في بلاده، فهو خريج المعهد الشهير أحمد باشا الديني بطرابلس، وخريج الجامعة الإسلامية جامعة محمد بن علي السنوسي في البيضاء، فقد تلقّى العلم في مَدرستين ومَعقِلين من مَعاقل العلم اجتمعت فيهما خلاصة المعارف والعلوم بليبيا، وقد كان من آداب الرّحلة في طلب العلم ألّا يرحل الطالب من بلده؛ حتى يستوعبَ أو يدرس على أشياخ بلده ومِصره!.

• توّج تعليمه بأن التحق بالأزهر، ونال منها الماجستير والدكتوراه، كما جمع إلى ذلك دكتوراه أخرى من جامعة إكستر من بريطانيا، وهو من القلائل من علماء بلادنا الذين جمعوا الشهادات من جامعات الشرق والغرب، وممّن يشاركه في ذلك العلامة الدكتور عبد المجيد الدّيباني-رحمه الله- فهو “ابن الأزهر والسّربون” نال منهما الشهادات العليا، كما يشاركه في صفة الأصالة العلمية في الأسرة، فوالده الشيخ الفقيه الكبير عبد الحميد الديباني- رحمه الله- شيخ الجامعة الإسلامية وعالم معروف، وجده الشيخ عطية قاضٍ وشيخ.

• جمع الشيخ الصادق بين التعليم في الجامعات لعقود، وحلقات المساجد، والتأليف المنهجي والعلمي، وشملت كتبه الفروع والأصول، والتّصوف والتّفسير، والعقائد، وغيرها، وجمعت بين التأليف والتّحقيق، وهي عشرات الكتب والرسائل، وأعظمها مدونة الفقه المالكي وأدلته في أكثر من أربعة آلاف صفحة استوعبت زبدة آرائه وخلاصة فقهه.

• لم يدخل عالم الإفتاء قفزًا على المراحل، بل بعد تحصيل لعقود، وتعليم وتأليف، إضافة إلى عمَلِه في دار الإفتاء مع الشيخ الطّاهر الزّاوي عندما كان مفتيًا لليبيا قبل أكثر من أربعين سنة، ولا شكّ أنه أفاد منه، وله أثر فيه وفي صلابته في آرائه كما عُرف ذلك عن الشيخ الطاهر، وقد حدّث الشيخ الصّادق عن صلابته وتصدّيه للنظام وتضيقهم عليه حتى أُجبر على ترك دار الإفتاء، وقد كان الشيخ الصادق منذ سنوات طويلة يخصص وقتًا يستقبل فيه تساؤلات الناس على الهاتف، ثم أطل على التلفزيون لإفتاء الناس قبل أن يصبح مفتيًا رسميًّا للبلاد بُعَيد الثورة.

• أضاف مع العلم الواسع، الوقوف على أدواء المجتمع ومعالجتها شرعيًّا في كتبه، وعن الانحرافات السلوكية والفكرية، وعن أخطاء المعاملات الشائعة.

• الهمُّ الإصلاحي، فقد عُجِن الشيخ بالإصلاح وعمل الخير، فلم يكتفِ بدار الإفتاء، ولم يتوقّف عندها، إنما امتدّت أياديه الإصلاحية للمشاركة والتأسيس في مؤسسات علمية ودعوية تقوم بالخير والإصلاح، مثل تأسيسِ معهدٍ رديفٍ لدار الإفتاء لتخريج المُفتين، وأنشأَ قناة دعوية تقوم بدورِ التّوعية والإرشاد وقد اقتصرت في بدايتها على الشؤون الدّعوية والعلميّة ثم توسّعت، وأضاف إلى ذلك تأسيس صرح مبارك وهو مركز الشيخ علي الغرياني للكتاب فيه مكتبة كبيرة، ومكان معدّ لطلاب العلم وشداة المعرفة، للبحث المطالعة، تقام فيه النّدوات والمحاضرات، وكلّ ذلك يقوم على رعايته وشؤونه الشيخ وتحت عينه.
وهذا الغرسُ المبارك بعد توفيق الله تعالى وتيسيره لم يقُم على سُوقه إلا برمزيّة الشيخ العلمية وجهده.

• أهم ما يميّز الشيخ الشجاعة في الحق، وقوة الشّكيمة، وعدم المجاملة فيما يؤمن به من رأي، واجتهاد وفكر، وهي صفةٌ ظاهرة فيه، يقتحمُ أمورًا لا يقتحمها أحدٌ لخَطرها، وضريبَتها!، ويذكر بعض المظالم التي لا ينبسُ لسانُ أحدٍ بها رهبًا وخشية، حتى يُخيّل إليك أنّه يرفع عنّا الحرج، ويقوم بفرضٍ كفاية عن الجميع، وهذه الجراءة في الحق والرأي، ألّبت عليه أصنافًا من الناس، وذلك مُتفَهّمٌ لمن يتصدّر ويكون رأسًا في كلّ أمر، ولا يسير في الظلّ، وهذا ما جعله أيضًا محلّ احترام لمَن يَختلفون معه، ويقولون عنه: ميزة الشيخ الوضوح فهو “لا يلف ولا يدور”!..لا يُماري ولا يُداري.

أكتب من وحي هذا الذكرى، بعد أيام قلائل على رحيل عالم جليل وهو نائب المفتي شيخنا الفقيه الكبير الدكتور غيث الفاخري -رحمه الله- وقد فقدنا قبله جُلّة من كبار علماء ليبيا الكبار، وتخطّفتهم المنيّة في بضعِ سنين، كالعلامة الأصولي عبد السلام أبو ناجي، والعلامة الأصولي الموسوعي فاتح زقلام، والعلامة عبد المجيد الدّيباني، والفقيه الفرضي محمد الزالط،
والعالم المقرئ مصطفى قشقش، والفقيه الصالح الشيخ صالح عبد الهادي المجبري، والفقيه المحقق الدكتور محمد المقّوز، وغيرهم رحمهم الله جميعا!.

هذا الفقد الجلل لهؤلاء القِمَم يجعلنا نتشبّث أكثر بأكابرِنا وعلمائنا الأجلاء، وتزداد معرفتنا بقيمتهم، والإشادة بهم وهم أحياء، والإفادة منهم، حتى لا نعضّ على أصابع النّدم بعد قبضِهم ونقول: ليتنا اغترفنا من بُحورهم، وارتشفنا من مَعين حكمتهم!
وقد جاء في الحديث الشريف عن سيدنا رسول الله ﷺ قال: ” إنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُهُ منَ النَّاسِ، ولَكن يقبضُ العلمَ بقبضِ العُلماءِ حتَّى إذا لم يُبْق عالمًا اتَّخذَ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالًا، فسُئلوا فأفتوا بغيرِ عِلمٍ فضلُّوا وأضلُّوا!”

حديث يخوّفنا من فقد علمائنا، وأن فقدهم انتقاص للعلم وذهاب لمعالمه، وهو ما يعني بروز الضُّلال والجهّال عياذًا بالله!.

أطال الله بقاء علمائنا ونفعنا بهم!.

هؤلاء الرّاسخون في العلم هم الأَمَنةُ على الدّين، والورثة للنّبوة، وهم البَركة.
وقد جاء في الحديث الصحيح عن سيدنا ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: “البركة مع أكابركم!”. ومن أكابرنا -بلا ريب- علماؤنا الذين جمعوا بين العلم والورع، مع الشيبة في الدّين، والجرأة في الحق، الذين يصدق عليهم قول الله سبحانه:﴿الذين يبلغون رسالاتِ الله ويخشونَه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبًا!﴾‏.

ويبقى من بَدهيّات القول أن الشيخَ وغيرَه من سادتنا العلماء الكرام معرّضون للصّواب والخطأ، فما مِن عالمٍ إلا وله مسائل واجتهادات تُنتَقُد، ولا يوافِقُ عليها آخرون من العلماء، بل حتى من بعض طلّابهم، ومعرفة قدر علمائنا وتقديرهم لا يعني أن يُسلِّمَ طلابُ العلم ومُحبّوهم بكل ما يقولون، وأهل العلم يتناكرون فيما بينهم ويتناصحون وينتقدون؛ لتُسَّدّدَ الآراء، وتُصحّحَ الاجتهادات، وهم بخير ما داموا كذلك، ولا يَتستغرِب هذا إلا مَن لا يعرف طبيعة أهلِ العلم، ولم يتأدّب بآدابهم، أو عنده ضيّق في الأفق، متعصب للآراء فانٍ في الأشخاص.

ورحم الله الإمام مالكًا رغم تتلمذه على الإمام ربيعة الرّأي صغيرًا وانتفاعه به كبيرًا، وتأدبه عليه، لم يمنعه من الإنكار عليه والاختلاف معه، بل وتركِ مجلسه، ومع ذلك لم يُفتِ حتى أذنَ له ربيعة، وإذا دعاه السلطان لم يُجِب ويَذهب حتى يستشيره!، ويوم مات ربيعة -رحمه الله- قال مالكٌ: ذهبت حلاوةُ الفقه يومَ مات ربيعة!.

حفظ الله العلامة المفتي، وبارك في عمره، ونفعنا به وسدّده، ومتعه بالعافية وتمامها، و حفظ كلّ علمائنا الأجلاء، وأبقاهم وأمدّهم بمدَدِه!.

﴿والله غالبٌ على أمرِه ولكنّ أكثرَ الناس لا يعلمون!﴾‏

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى