جدلية إعادة صياغة الوعي المجتمعي للسردية التاريخية
الأستاذ مصباح الورفلي
1_ العصر الجاهلي
اتهامات قصر الفهم وتشكل القناعات الخاطئة للسردية التاريخية التي يطلقها المنادون بالتجديد لإعادة قراءة وصياغة هذه السردية؛ متهمين المؤرخين المسلمين بالانحياز لسردية تاريخية مبتورة بعيدة عن الحقيقة، هي بحد ذاتها تحتاج إلى إعادة قراءة متمعّنة للوقوف على مدى صوابية هذه النظرة من عدمها..
المنادون بإعادة صياغة الوعي المجتمعي يرون أن بعض المؤرخين المسلمين أسهموا في تشكل قناعات غير موضوعية لدى المجتمعات الإسلاميّة عن مراحل تاريخنا العربي والإسلامي؛ بدءًا بالنظرة الدونية الظلامية للعصر الجاهلي.. ومرورا بالهالة الثورية التي أحدثها الدين الإسلامي – الثورة على الصعيد السياسي والثقافي والاجتماعي- باعتباره تحوّلًا جذريًا غير مسبوق بالإضافة إلى رسالته الحضارية وأثرها في نهضة الأمة في علاقة طردية متلازمة – بمعنى مادام المسلمون متمسكين بدينهم فهم في أوجه التقدم والحضارة والعكس- والقناعة بنظرية التآمر الصليبي على الأمة حتى انهارت دولة الخلافة، وآخر هذه القناعات تبعية قادة دول العالم الإسلامي ما بعد الاستقلال الروحية والتشريعية للغرب العلماني حتى أضحى مكبّلاً منصاعاً لأوامره.
هذه القناعات التاريخية الخمس يراها بعض المنادون بتجديد السردية التاريخية بأنها خاطئة وينبغي إعادة ضبطها وصياغتها وإزالة القراءات والمفاهيم الخاطئة منها كأساس ثقافي ننطلق منه إلى رحبات أوسع نتشارك فيه مع الآخر، وكأن تلك القناعات أدخلتنا شرك التخلّف والسبب الرئيس لأزمتنا الخانقة إذ صوّرت لنا وحشية الأمم والشعوب الأخرى في نظرة قاصرة نتيجة رسوخ تلك القناعات.
دعونا نتطرق بإيجاز إلى هذه الرواسخ المبثوثة في تاريخنا وتراثنا ولنبحث بكل موضوعية طارحين هذه التساؤلات.. هل فعلاً ترسخت لدينا قناعات خاطئة؟ وهل نظرتنا للآخر منطلقة من تلك القناعات؟ أم أن متهمينا جانبهم الصواب نتيجة قراءتهم التأويلية لهذا التراث؟ على كل حال لنبدأ من حيث ما بدؤوا بالعصر الجاهلي.
هذه التسمية لها دلالاتها المكانية والزمانية والدينية ولا يمكن تعميمها تعميما مطلقا من حيث المكان والزمان، وهو ما وقع فيه المنادون بالتجديد، اتهموا المؤرخين المسلمين بهذه النظرة الدونية الظلامية بسبب تسميتهم العصر ما قبل الإسلام بالعصر الجاهلي شاملاً كل أهل الحضارات القائمة آنذاك عربا وفرسا أو روماناً وغيرهم، هذا التعميم الذي يحاول المنادون لإلصاقه بالمؤرخين المسلمين يعدّ اتهاماً باطلاً وحقيقة مبتورة من دلالاتها المتعددة التي ذكرناها وتحتاج إلى إيضاح.
أولاً: دلالة التسمية من حيث المكان والعنصر القاطن به، أطلقت هذه التسمية “العصر الجاهلي” على العرب في حيّزٍ مكاني يقطنونه “جزيرة العرب”، نظرًا لانتشار الجهل بالقراءة والكتابة لديهم في ذلك العصر فقد كان معظمهم لا يجيدون الكتابة والقراءة إلا ما ندر، بل تعدى الأمر أكثر من ذلك فقد أصبحت الكتابة عند بعضهم عيباً حتى بعيد ظهور الإسلام، إذ يخبرنا صاحب كتاب الأغاني أن عيسى بن عمر قال: قال لي غيلان ذو الرمة: “اِرفع هذا الحرف”.. فقلت له: “أتكتب”؟! فوضع يده على فيه وقال: “اُكتم عليَّ.. فإنه عندنا عيب” وهذا دليل على أمّية الأغلبية القاطنة الجزيرة العربية، وكذلك الجهل ببعض القيم والأخلاقيات وليست كلها، وهو ما نتج عنه الفوضى الأخلاقية والاجتماعية والسياسية السائدة لديهم. لذا فإن الجابري يرى أن الجهل الذي أطلق على العرب ناتج عما رافقه من فوضى وانعدام الوازع الجماعي اجتماعيا وسياسيا وليس بمعنى عدم العلم وانتفاء المعرفة وبعض الأخلاقيات الفاضلة التي كانت لديهم كالمروءة والشجاعة والكرم ونصرة المظلوم …. إلخ، بالإضافة إلى ما ذكرنا فهي خاصية بكل جوانبها السياسية والاجتماعية خص بها العنصر العربي دون غيره في رقعة جغرافية محدودة مكانا لم تتجاوز ما جاورهم من أصحاب الحضارات المادية فالتسمية بدلالاتها المكانية واضحة لم تشمل صروح الفرس ولا بلاد الروم ولا حضارة اليمن، ولو عدّت تلك الحضارات جاهلة لما استمد منها المسلمون أسس ونظم إدارة وتنظيم دولتهم فيما بعد.
أما من ناحية الدلالة الزمنية فالمصطلح _العصر الجاهلي _ بحسب المؤرخين، حدّد قبل ظهور الإسلام بمائة وخمسين عامًا أي قيّد بزمن ولم يطلق بالعموم، وبالرجوع إلى عمر الحضارات الفارسية والرومانية والكنعانية والآشورية وغيرها من الحضارات فإنها تعود لآلاف السنين وهذا التقييد _مائة وخمسون عاما_ خص كما خص المكان بالعرب داخل الجزيرة العربية ينافي الإطلاق الزمني المحدد والدلالة الزمنية للعصر الجاهلي .
وبخصوص الدلالة الدينية وهي الأصل في التسمية وسبب إطلاقها فهنا المصطلح يشمل الجميع، عربا كانوا أم عجما، أصحاب حضارة مادية أو أميين يسكنون العراء، بمعنى أن كل من خالف تعاليم الحنيفية السمحة، دين إبراهيم الخليل عليه السلام دين التوحيد قبل ظهور الإسلام يعدُ جاهلا ولو كان يجيد القراءة والكتابة وشيّد الصروح الحضارية، فالكل في هذه التسمية سواء من حيث الدلالة الدينية وبظهور الإسلام أعطى للدلالة الديمومة؛ لأنه الناسخ للتشريعات السابقة وأضحى الدين والحكم والمشرّع والمرجع فعدّ كل ما سواه أحكاما وأعرافاً جاهلية (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)
إذًا فتسمية الجاهلي جاءت وفق هذا التفسيرات والدلالات لا وفق النظرة العمومية البعيدة عنها، التي جرّأت المنادين اليوم بضرورة إعادة صياغة السردية التاريخية لها وكأنها تسمية معيبة.