عاممقالاتمقالات الرأيمقالات تربوية

جدل أحبارهم ، وخراب ديارهم !

✍🏻 د. ونيس المبروك

في الوقت الذي كان فيه محمد الفاتح، رحمه الله، يُعدُ المدافعَ ليدكَّ أسوار َالقسطنطينية، كان أحبارُها ورهبانها في داخل تلك الأسوار، يخوضون في نقاشٍ جاد، وجدلٍ حاد، حول أسئلة عَقَدية غامضة؛ مثل : ما هو حجم إبليس، وهل الملائكة ذكور أم إناث، وهل المسيح من جنس البشر، أم هو إله، أم هو مزيج بينهما ؟!!!
ظنّ الأحبارُ أنهم بذلك الجدل العقيم يُحيُون العقيدةَ ويذودون عن حِياض الإيمان،… حتى وقعَ سقفُ الكنائس على رؤوسهم، وأسر الجنودُ رجالَهم، وصارت أموالهم وديارهم غنيمة للفاتحين.

لم تقهم المباحثُ الفلسفية الباردة حرارةَ العدوان، أو تلهب حماسهم إلى حمايةِ أمتهم، وصَونِ أوطانهم، ولم تبعثهم العقائد الحائرة، على مقاومة الجيوش، وشحذ قلوب أتباعهم للتضحية و صدّ العدوان .

لازلت أذكر كيف كُنا نتجادل في عام 1988م، ونمضي الليالي في الحوار حول الخِلاف والاختلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث، أو بين الوهابية والأزاهرة، ونطيل التدقيق والتشقيق- رغم بضاعتنا المزجاة – في قضايا عقدية مثل : صفات الذات والأفعال، وهل الحسن والقبح في الأشياء ذاتي أم اعتباري، وهل الإنسان مخير أم مسير أم مُكتسِب، وماذا نفعل بالنصوص القرآنية الموهِمة للتشبيه، وهل يصح الأخذ بالمجاز في قضايا الاستواء والعلو والنزول و ….
كانت غيرتنا على الدين، تدفعنا لخوض تلك المباحث، فننفق فيها جُل أوقاتنا، ونبدد في حوضها طاقتنا الذهنية والنفسية، ظنّاً مِنّا أنها جوهر العقيدة وحقيقة” الإيمان” الذي جاء به سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وربّى عليه صحابَتَه وتنزّل به القرآن المكي كي يبني جيلاً قرآنياً فريداً .
وقيل لنا، إن ( المباحث الكلامية) هي أول لَبِنات البِناء، ومداميك الإصلاح، وركائز الاعتقاد الصحيح .
ثم اكتشفنا بعد مخالطتنا لأهل العلم الراسخين، أن تلك المباحث هي معالم وعواصم اجتهادية، صنّفها العلماءُ لضبط قضايا الغيبيات، أو هي- كما قيل- بحوث وظيفية ” لإثبات العقائد، وإبراز الحجج، ودفع الشُبَه ” وأن أمرها لا يستحق كل هذا التعصب المقيت، ولا التبديع والتفسيق والتبكيت، وأن أدواتنا المعرفية قاصرة حتى عن فهم تلك المباحث فَضلاً عن الترجيح بينها، أو الحُكم على قائليها, أو لهم !
أنا هنا لا أبخس أو أقلل من منزلة علم العقيدة والكلام، أو ازدري مباحثه، وأتهكم على باحثه، كما يفعل بعض الناس!
لكني أراه علما، ميدانه قاعات الدرس التخصصي، ومراكز البحث العلمي، وينبغي أن لا نصنع به ضجيجاً، ونثير منه عجيجاً، ونُشْغِل به العامة،… أو ” نباهي به العلماء، ونماري به السفهاء، ونصرف به وجوه الناس إلينا ” كما قال الصادق المصدوق .

أكتب هذه الخاطرة وأنا أراقب على مَضض تَجدّدَ الجدلِ العقيم القديم في ساحتنا حول تلك المباحث، ومحاولة كلِ فريق قصر الحقيقة في رأيه، وحصر اهل الحق في أتباعه، واستيراد مقولات السلف والخلف من بطون كتب التراث، لتضليل كل مذهب أو عالم لا يقول بقولنا، أو يسقي في دلوتا، أويَرى بعيوننا ..
إن أوطاننا الإسلامية اليوم، صارَت ترضخ – على مُكثٍ – تحت قبضة الطُغاة المستبدين والغُلاة المتنطعين، والبُغاة السراقين، وشعوبنا تتعرض لأعظم مشروعٍ لتقويض هويتها، وتحريف معالم دينها، وتمزيق هيئتها الاجتماعية، والعبث بما تبقى من تاريخها وثقافتها.
اليوم تعصف بشبابنا رياح الإلحاد والمادية، التي تُحركها جهاتٌ مشبوهة، وتنزل بساحتنا مشاريعُ الحداثة والخناثة والدياثة؛ التي يدفع تكاليفَها الرِممُ، ويُروج لها اللَمَمُ، و تُموّلُها هيئات الأُمم !

(بعض) شبابنا لا تهمهم معرفة الصفات، لأنهم صاروا يرتابون في وجود الذات ! ولا يرفضون العمل بالأحكام فقط، بل يطعنون في مَصادِرِها، ولايبالون بالمتشابهات، لأنهم لا يؤمنون بالمُحكمات، ولا ينكرون مُنكرا أو يعرِفون معروفا، إلا ما أُشربوا من أهوائهم …

ديننا يأمرنا برص الصفوف، وضم الكفوف، والاجتماع على المحكمات، والتعاون على الأولويات، والاعتصام بحبل الله تعالى جميعا .
فهل من مستجيبٍ، أو مُعتبِر ؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى