عاممقالاتمقالات الرأي

جمعية الإحياء والتجديد.. أصالة المبادئ وتجديد الوسائل

أ. فرحات الهوني

إننا نعيش في عالم المتغيرات السريعة الشبيهة بالانفجارات والمليئة بالمفاجآت، وإذا لم تكن عندنا قابلية الإحياء والتجديد، والخروج بطور جديد في الخطاب والوسائل سوف نجد أنفسنا نغرد خارج الواقع، ويكون صوتنا نشازًا لا نحسن العزف إلا على أوتار الماضي، وربما تأكلنا آفات الزمان في كهف الغفلة دون أن نتقبل أحداث التغيير الذي هو ظاهرة صحية.
يقول الدكتور عبد الكريم بكار في كتابه عصرنا والعيش في زمانه صعب: “بعض الذين خارج العصر مكبلون بأوهام (المثالية)، فهم يظنون أن ما يجري في الواقع قريب مما هو مستقر في الذهن من قيم ومثل”.
ويقول أيضا في المصدر نفسه: “مشكلة الوعي هذه الأيام أن الواقع يتغير على نحو أعقد وأسرع من قدرته على استيعابه”.
فالتغير والتحول حل للأزمات التي قد تؤدي إلى أزمات أشد وأعقد منها، ومن هنا كانت الانطلاقة في تطوير الوسائل ومنظومة الاتصال المجتمعي، والحديث بلسان يفهمه أهل زماننا لكي لا يكون الحديث بلسان الماضي فتنة إذا لم تستوعبه عقول من نحدثهم، وكما ذكر الدكتور طارق السويدان: “ترتيب الأزمات والأخطار التي تعيشها الأمة يساعدنا على البدء في وضع حلول لتجاوزها”.
هناك من يجد حرجًا شديدا في معتقداتنا الفكرية من أي فكرة تنادي بالتغيير والتحول، وهذا نتيجة الموروث الفكري الذي يمثل ما يسمى سياسيا بالتيار (الراديكالي)، وهو التشبث بالأصول والمسميات دون النظر إلى مدلولات التحول والتجديد، وهو أشبه بسلفية الاحتواء أي الانكفاء على الماضي ومصطلحاته ووسائله، أو كما قال الدكتور حذيفة عكاشة: “كثيرا ما تضيع البوصلة عندنا، فنخلط بين الوسائل والمقاصد”، وهذا المفهوم خاطئ للتحول أو التغيير لا يكون في المحكمات من القيم والأهداف، ولكن تجديد الخطاب والمصطلحات والوسائل بما يتناسب مع متطلبات الواقع.
وقد يظن ظانٌ أن التحول والتغيير له علاقة بمنسوب الإيمان والثبات على المبادئ والقيم، وهذا شرود عن الفهم الصحيح لمفهوم الثوابت والمتغيرات، وقد صححه العلامة يوسف القرضاوي ـ رحمه الله ـ حيث قال: “نستطيع أن نحدد مجال الثبات ومجال المرونة في الشريعة الإسلامية ورسالته الشاملة الخالدة فنقول: إنه الثبات على الأهداف والغايات والمرونة في الوسائل والأساليب، الثبات على الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات، والثبات على القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الشؤون الدنيوية والعلمية”.
ويقول الشيخ عباس شريفة: “ليس الإسلام مذهبا حداثيا يقول بنسبية الأفكار والقيم، إنما هو منهج رباني يجمع بين الثابت والمرونة، وبين الخاص والعام، وبين المطلق والمقيد، فيحقق بذلك الاستجابة لمتغيرات الزمن، والوقوف على أرض صلبة من اليقين”.
هذا بالنسبة للإسلام وهو المنزل من عند رب السموات والأرض، كيف بالاجتهادات البشرية، فإن أي فكرة لابد أن يكون لها ثغرات وجوانب قصور، ولكن ما يصلح لزمانها يوما لا يصلح للأزمنة التالية؛ لأنه كما يقول الدكتور محمد مختار الشنقيطي: “لأنه ينتمي إلى طور النشوء، لا إلى طور الاستمرار، ولكل عصر رجاله وأشكاله”.
يقول الدكتور جمال سلطان في مقاله النقد الخالد: “إننا حين ننظر للنقد في القرآن نجده شاملاً للبشر.. للمسلم والكافر، وللصالح والطالح.. ونجده شاملاً للزمان، ينتقد ما هو قائم، ويحذر مما سيكون”.
ويقول الدكتور محمد عمارة ـ رحمه الله ـ : “في فكرنا الإسلامي المعاصر فقر في الإبداع.. وإفراط في التقليد.. تقليد التخلف الموروث والتغريب الوافد من وراء الحدود، وفي العالم من حولنا متغيرات تزلزل الواقع وتراجع مسلمات الفكر إلى حكمته عشرات السنين، وحين لا نظل أسرى لتخلفنا الموروث وضحايا لأزمات الآخرين فلا بد من إعمال العقل المسلم في ميدان الإحياء والتجديد”.
وهنا نذكر بما قاله الكاتب لوروانس أي هاريزون في كتابه الثقافات وقيم التقدم حول التغيير والتحول حيث يقول: “فالتحول يراد به الانتقال إلى تيار يعبر عن مسار المجتمع مستخلصا الخبرة والعبرة من رؤية عقلانية نقدية عن الماضي والحاضر واستشراف المستقبل، وإنما هو مجمل زخم الحراك الاجتماعي والنشاط الإنتاجي ومعاناة البناء والتطور الإداري.. في صياغة نسقية هادفة معنية بتحليل للقضايا، وحل للمشكلات، وحفز للحراك، ودعم لعلاقات قائمة أو منشودة.. وتحقيق للتكيف على صعيد اجتماعي متكامل، وفي إطار من المنافسة أو الملائمة على صعيد إقليمي وعالمي.. ومن ثم يجسد حركة متطورة في الزمان وسجلا للجديد من الأحداث وحيوية التنوع والتعدد في سياق التبادل والتفاعل والأبداع”.. (بتصرف).
وهذه الأحداث في التغيير ليس نتيجة فشل كما يظن بعضهم، لكن يكون نتيجة تطور في الأداء وقراءة صحيحة للواقع وقد ذكر الدكتور عبد الكريم بكار في كتابه عصرنا والعيش في زمانه الصعب حيث قال: “إن المؤسسات الناجحة في زماننا تتسم بأنها تملك نظما قابلة للمراجعة والتجديد والتعديل، على حين يفلح الذين يعيشون خارج عصرهم في نقد غيرهم”.
ويقول في كتابه التنمية المتكاملة: “إن العالم من حولنا يتغير، فتصبح الأهداف القريبة بعيدة، والبعيدة قريبة، وكذلك طموحاتنا والمثيرات والإمكانات والخصومات، وهذا يعني أن التي نكونها على محيطنا الأدنى والأقصى، يجب أن تكون تطورية قابلة للمراجعة والإضافة، وإلا تفلت الواقع من أيدينا وصرنا إلى العماء والرؤية العشماء”.
فالتغيير والتحول ليس بدعا من المنظمات والهيأة والمؤسسات والجماعات عبر التاريخ، ففي المسار التاريخي نجد الكثير من هذه التجمعات قد قامت بمراجعات وتغييرات وتحولات بما يناسب واقعها وقد نجحت في الخروج من أزماتها، وصار لديها شِرة بعد فترة، وتحسين صورة ذهنية بعد تشويهها، وعودة ثقة في إمكانياتها بعد حجبها.
وهذا ما يجعل المصلحين دائما يبحثون عن هذه الثغرات، وهذا القصور للتجديد وإخراج فكرتهم في طور جديد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى