مقالاتمقالات الرأي

جيد ولكن!

جيد ولكن!

أ‌. مراد فياض

الإجماع الذي شاهده كثيرون مؤخرا في الدفاع عن الإمام النووي من تطاولات بعض الأدعياء أمر جيد بلا شك يسعد به كل مسلم.
ولكن للأمانة؛ فإن الموضوع يحتاج إلى حل جذري، لأن التطاول على النووي سبقه مثله على أبي حنيفة والغزالي وغيرهما.
والحقيقة التي يجب الاعتراف بها أن تطاول المتطاولين هؤلاء لم يأت من فراغ، ففعلهم هو تمظهر متجدد لسلوك وفكرة موجودة وقديمة.
فكرة تضخيم الخلاف في التفسيرات الكلامية للغيبيات العقدية، التي يفترض أن الأصل هو عدم الخوض فيها أساسا. فكرة جعل موضوع هذه الخلافات هو مرادف الإيمان والعقيدة، وجعل هذا الخلاف من الأصول لا الفروع، يُتعَصب فيه للرأي الاجتهادي كأنه من ركائز الإيمان، ويُبّدَع فيها المخالف وقد يكفّر حتى.
وقد ورد التطاول على الإمام الأكبر أبي حنيفة في كتابات تنسب لبعض أوائل رواد المدرسة الحنبلية، وهذا المحتوى يتبناه بعض المعاصرين صراحة مثل ما نقل عن مقبل الوادعي وغيره. كما أن اللمز والتلميح ب”أخطاء” أو “انحرافات” مدّعاة في عقيدة النووي وردت على لسان بعض كبار الشيوخ في السعودية وغيرها، وإن حافظوا على احترامه واحترام علمه وتبجيله وتعظيمه في المجمل. وهذا التلميح يرد اليوم على لسان حتى بعض من يدافعون عنه بقوة. وهذه “البذرة” التي تفرض نفسها أحيانا حتى على لسان بعض الخيرين والمدافعين، هي المصدر المتجدد الذي يوفر المادة الخصبة للمتطاولين كل بعد فترة.
والعلاج الجذري والسليم الذي يعالج القضية من أساسها، هو تصحيح هذه النظرة للقضايا الكلامية، والاعتراف أنها ليست هي الإيمان ولا العقيدة، وأنها قضايا طرحت لواقع معين، وأنه وإن كان لابد من فتحها ومناقشتها، فإن ذلك يكون أولا محصورا في أروقة العلم، وثانيا يكون بالاعتراف المسبق أن الخلاف فيها سائغ وجائز وتحتمله ألفاظ اللغة. وأنه مشابه للخلاف في الفروع الفقهية الذي لا يكون فيه تبديع. وأن الأصل هو عدم الخوض في الخلاف الكلامي، خصوصا بالنسبة للعوام.
بهذا يتم تجاوز التعصب في هذه المذاهب الكلامية كما تجاوزت الأمة بحمد الله التعصب الفقهي الذي طرأ على المذاهب الفقهية في حقبة ما.
وهنا يجب التنويه أن هذا السلوك قد رأيناه يصيب مختلف الأطراف، فقد شاهدنا سابقا تطاولا مشابها من البعض الآخر قديما وحديثا على ابن تيمية لأسباب مشابهة، مع التنكر لفضله ودوره وإضافاته المهمة في المنتج العلمي والحضاري للأمة. حتى وإن كان ابن تيمية نفسه رحمه الله أو غيره من الكبار من أي مدرسة قد نقل عنهم تجاوزات في وصف مخالفيهم في هذا الباب، فهذه حلقة لا ينبغي أن تستمر.
وكما سبق، فإن الإنصاف مطلوب من جميع المدارس، وإعطاء القضايا الخلافية حجمها ومقامها المناسب لها بدون تضخيم أمر يسبق ولا يقل أهمية عن إعذار المخالف. هذا لمن أراد الحسنى.
وأما من أراد شحن النفوس، وقسوة القلوب، وتضييع الأجور، وكسب الذنوب، وتشتيت الجموع، وتقسيم الأمة، وتفريق كلمتها، وهتك عرض المسلمين وأئمتهم.. فأمره إلى الله وكفى بالله حسيبا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى