عامقضايامقالات الرأي

حرية التعبير بين النقد والتجريح والنصح والتشهير

د. سالم بوحنك
لقد أمرنا ربنا سبحانه وتعالى بقوله جل في علاه: ﴿يا أيها الذيم آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا﴾، وبيّن خيرية هذه الأمة في قوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ اِ۬لْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِۖ﴾، وحذرنا رسول الله ﷺ من عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال ﷺ: (والذي نَفْسي بيَدِه، لتَأمُرُنَّ بالمَعْروفِ ولَتَنهَوُنَّ عن المُنكَرِ، أو لَيَبْعَثَنَّ عليكم قَومًا، ثم تَدعونَه فلا يُستجابُ لكم)، وبيَّن لنا أن (الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنا: لِمَنْ؟ قالَ: لِلَّهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ)، إلى غير ذلك من الأدلة التي تجمع على ضرورة الإصلاح والنصيحة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبينَّ أهل العلم أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يؤدي إلى منكر أكبر منه، ومما هو معروف لدى الجميع أن التناصح والتذكير بالخير والحث على المعروف، كما أن النهي عن المنكر والأخذ على يد المسيء من عوامل قوة المجتمع وبناء مهم في أساس الدولة.
يتعامل الناس خلال حركتهم في الحياة مع بعضهم بعضًا في ثلاثة محاور رئيسية:
1) الإهمال: حيث لا يهتم الإنسان بما يحدث حوله إلا إذا كان يمسه بصورة مباشرة، وبالتالي يعيش حالة من السلبية تجاه القضايا المطروحة ومن يتصدرها، ويعتمد في تصوره على ما يطرح في الإعلام ولا يحاول التثبت وتكوين رؤية واضحة وصحيحة.
2) الموقف والقناعات المسبقة: حيث تجد بعض الناس لديهم حكم مسبق حول القضية المطروحة سواء بالتأييد أو المعارضة، ولذلك قد يتشدد في موقفه، ويحمل على مخالفه حملة شديدة تصل إلى الاتهام والسخرية والاستهزاء، وفي المقابل يدافع عن الذين يشاطرونه الموقف بدون حدود ويعتذر لهم حال خطئهم ولا يحمل عليهم بالطريقة التي تعامل بها مع مخالفيه في الرأي.
3) المتفحص والمدقق والمنصف: وهذا النوع قليل ونادر وهو الذي ينظر للمواقف فيتثبت أولا ويستوضح ثانيا، ثم يحكم ويبين موقفه باعتدال ودون اتهام للنوايا، وإنما هو مناقشة الرأي دون النظر إلى الشخص الذي قال هذا الرأي أو ذاك، وهو أفضل الأنواع، وأجملها وأعدلها.
كما سبق وذكرنا لا يمكن للمسلم أن يتصف بالسلبية واللامبالاة، وإنما هو يهتم لأمر المسلمين سواء وصل الأمر إليه أو لم يصل لقوله سبحانه وتعالى:﴿إِنَّ اَ۬للَّهَ يُحِبُّ اُ۬لذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّاٗ كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٞ مَّرْصُوصٞۖ﴾ ومصداقا لقول الحبيب المصطفى ﷺ: (إنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا. وشَبَّكَ أصابِعَهُ). وقوله ﷺ: (مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكى منه عُضْوٌ تَداعى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمّى) رواه مسلم، ولكن الضوابط التي تحكم هذا السلوك من الضروري أن تكون واضحة للجميع، وتتمثل في التالي:
1) التثبت من المعلومة والتدقيق في مصادرها، وجمع كل المعلومات المتعلقة بها، وتجنب ما يشاع حول هذا الموضوع.
2) إذا كان في الإمكان التواصل مع صاحب الموضوع ومناقشته في موقفه، ونصحه، وبذل الجهد إما في تفهم موقفه أو إثنائه عنه.
3) ستظل مناقشة القضايا الخلافية على مواقع التواصل الاجتماعي سلبياتها أكثر من إيجابياتها، ورغم أن الجميع مقتنع بأن القضايا العامة هي قضايا المجتمع، وأن من حق الناس أن تعلم الحقائق، وغير ذلك من الحجج التي تقدم في هذا الشأن، فإن الواقع يفيد أن الهوة بين الطرفين تزداد يوما بعد يوم حتى وصل إلى مرحلة يصعب معها العلاج، ولذلك فالأجدى هو التواصل ومناقشة المواضيع في دوائر مغلقة، مع الصبر والمحاولات المتكررة، وفي حالة عدم الوصول إلى حل يمكن بعد ذلك الحديث في الإعلام ومواقع التواصل وبيان الموقف بوضوح.
4) المناقشة بالتي هي أحسن امتثالا لقوله تعالى: ﴿اَ۟دْعُ إِلَيٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ اِ۬لْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالتِي هِيَ أَحْسَنُۖ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهْلَ اَ۬لْكِتَٰبِ إِلَّا بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا اَ۬لذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْۖ﴾، وقوله جل جلاله: ﴿اُ۪دْفَعْ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَ۬لذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞۖ﴾، ومن ضمن الإحسان في المناقشة التركيز على مناقشة موضوع الخلاف دون النظر إلى صاحبه، وخاصة المسائل الشخصية، ومن ضمنها الحديث عن نيته وما يضمره من سوء أو غير ذلك من النوايا التي لا يعلم حقيقتها إلا خالق الإنسان الذي يعلم السر وأخفى.
5) الإنصاف والعدل في الحكم: بحيث يذكر لصاحب الموقف ما قدمه من خير، وما بذله من تضحيات في السابق لقوله تعالى: ﴿يَٰأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَيٰ أَلَّا تَعْدِلُواْۖ اُ۪عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَيٰۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَۖ﴾، وقول الرسول الكريم ﷺ: (لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إنْ كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ)، آخذين في الاعتبار أن الانسان مادام على قيد الحياة ويشارك في أعمال الحياة لابد أن يقع في الخطإ والإثم، وهذا ما كتبه الله على ابن آدم كما قال رسولنا الحبيب ﷺ عن أنس بن مالك: (كلُّ ابنِ آدمَ خطّاءٌ، وخيرُ الخطّائين التَّوّابون)، ولو طلبنا العصمة من الأخطاء لم يكن لنا من شخص نرتضيه ونعمل معه.
6) تصحيح النية بحيث تكون لله وبغرض الإصلاح: إذا كان هدف الإنسان التصحيح والنصح فإنّه توجد وسائل كثيرة منها: التواصل المباشر وبطريقة خاصة وعدم التشهير وإعلان الأخطاء، وفي كثير من الأوقات نجد الكثيرين لا ينتبهون للخطأ، ولكن بمجرد تلميح الشخص ينتبه الآخرون، وكذلك إذا كان النصح من محب فيكون قبولها سهلا، ولذلك قبل تقديم النصح لابد من كسب قلب المنصوح حتى تجدي النصيحة ويتحقق الإصلاح.
7) التعميم وإطلاق الأحكام على عموم الناس سواء كانت مجموعة أو فئة أو قبيلة أو مدينة مخالف للعدل والحق؛ فالأصل أن ﴿كُلُّ نَفْسِۢ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾، وعند الحساب يقال: ﴿اِ۬لْيَوْمَ تُجْزَيٰ كُلُّ نَفْسِۢ بِمَا كَسَبَتْۖ﴾، وميزان الحق يقول: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَاۖ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزْرَ أُخْرَيٰۖ﴾، ولذلك لا يحمل خطأ الواحد على المجموع ولا يجوز معاقبة الكل بجرم الواحد إلا بشروط هي معلومة عند أهل الشرع والقانون، وما يتم تداوله أحيانا من البعض عند انتقاد شخصية عامة مسؤولة أو غير مسؤولة عن سلوك اعتبره الناقد خطأ فيقول فلان الإخواني أو السلفي أو من مدينة كذا أو من قبيلة كذا فيتسبب ذلك الذي يراه خطأ على المجموع وربما كان سببا في يوم من الأيام في قتل أو أذى يصيب أحدا من تلك المجموعة، إضافة إلى ما تثيره هذه الإشارة إلى كره وحقد تجاه تلك المجموعة، وللأسف لو سألته عن بعض أعضاء تلك المجموعة أو الحزب أو المدينة لأثنى عليه ونزهه عن ذلك الخطأ.
8) إدراك ما يمكن أن يترتب عليه هذا النقد من سوء استعمال من أعداء هذا الوطن وهذه الأمة، فيمكن أن يستخدم أعداء المنتقد هذا النقد في التأليب بل والاعتداء عليه، وبذلك تكون بنقدك قد ساهمت من حيث تدري أو لا تدري بإيقاع الأذى على من لا يستحق هذا الذي وقع عليه.
9) الانتباه إلى الابتعاد عن السخرية والاستهزاء فضلا عن الكذب، فالنهي عنهما واضح وجلي في قوله تعالى: ﴿يَٰأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٞ مِّن قَوْمٍ عَسَيٰ أَنْ يَّكُونُواْ خَيْراٗ مِّنْهُمْ وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ عَسَيٰ أَنْ يَّكُنَّ خَيْراٗ مِّنْهُنَّۖ وَلَا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُواْ بِالْأَلْقَٰبِۖ بِئْسَ اَ۬لِاسْمُ اُ۬لْفُسُوقُ بَعْدَ اَ۬لْإِيمَٰنِۖ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لظَّٰلِمُونَۖ، يَٰأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ اُ۪جْتَنِبُواْ كَثِيراٗ مِّنَ اَ۬لظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ اَ۬لظَّنِّ إِثْمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاًۖ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَّأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيِّتاٗ فَكَرِهْتُمُوهُۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞۖ﴾، ولما تسببه السخرية من عدم قبول للنصح وإيغار للصدور.
10) توخي استخدام الكلمة الطيبة والأسلوب الحسن فإنه من الحكمة التي أمرنا الله بها في قوله تعالى: ﴿اَ۟دْعُ إِلَيٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ اِ۬لْحَسَنَةِ ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَجَٰدِلْهُم بِالتِي هِيَ أَحْسَنُۖ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِے يَقُولُواْ اُ۬لتِي هِيَ أَحْسَنُۖ إِنَّ اَ۬لشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْۖ﴾، فالكلمة الطيبة تجد طريقها للقلب قبل الأذن، وتقنع المستمع بأسرع طريق، وفي الحديث: (إن من البيان لسحرا)، وكما قيل أيضا (الكلام الحسن يزيد الحق وضوحا).
11) الرجوع إلى الحق سمة الكرام وأخلاق الشجعان، إذا ما تبين لك خطأ انتقادك، وسوء تقديرك، وتسرعك في حكمك، فإن ذلك أدعى لقبول كلامك في المستقبل، وأزكى لحكمك لأنه غير معتمد على هوى أو مصالح شخصية أو جهوية ضيقة، بل اتباعك للحق هو سلوكك، له تنقاد، وإليه تسعى.
إن تميز المصلحين بأخلاق الإسلام في مسألة النصح وإبداء الآراء، والتزامهم بالهدْيِ الرشيد الذي يدعو إليه الدين القويم لهو أدعى للإصلاح وتميز عن أصحاب الأهواء والذين يحبون أن تشيع الأساليب الرخيصة والطرق المسببة للفرقة والتنازع، والتذرع بأن هذا حدث بين الصحابة رضوان الله عليهم غير مقبول لسببين رئيسيين:
الأول: أن هذه الحوادث كانت حوادث فردية ولم تكن سلوكا عاما
الثاني: أن لها ظروفها الخاصة التي تمنع تعميمها
إننا ندعو كل المخلصين الصادقين الذين يريدون الله والدار الآخرة أن يعملوا جاهدين على إبراز السلوك الإسلامي القويم، ويلتزموا هدي النبي محمد ﷺ حتى يكونوا قدوات تسير على هداهم بقية المسلمين بل يكونوا منارات يهتدي بها الحيارى والتائهون بين سبل الضلال وأدعياء الحرية والمصداقية والشفافية وغيرها من الشعارات التي تستعمل فقط لضرب القيم والأخلاق النبيلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى