مقالاتمقالات تربويةمقالات فكرية

حقيقة الرسالة والنبوّة.. ومظاهر تكريم الإنسان

حقيقة الرسالة والنبوّة.. ومظاهر تكريم الإنسان

 

د. علي محمد الصلابي

 

النبوةُ والرسالةُ اصطفاءٌ خالصٌ من عند الله، يختصّ به مَنْ يشاء من عباده، وليست شيئاً يكتسِبُه العبادُ من ذاتِ أنفسهم بعمل يعملونه من جانبهم، وكل ما يقعُ للبشر في حياتهم هو من عند الله، ولكنَّ الله قدّر أن يكونَ للإنسان جانب من الكسب في كلّ ذلك، فقد أعطى الإنسانَ القدرةَ على المعرفة، ووهبَ له ذكاءً يتفاوتُ من شخص إلى شخص، ومنحه طاقةً مختلفةً، ثم كلّفه أن يعملَ، وأن يبذلَ جهداً معيّناً لتحصيل المعرفة، واستخدام الذكاء في عمارة الأرض وغيرها من شؤون الحياة.

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ *} [الملك: 15] وقال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] وقال تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ *} [العلق: 4 ـ 5] وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *} [النحل: 78].

ويستطيعُ الإنسانُ بتحصيله الشخصي أنْ ينمّي ما وهب الله له من مواهبَ، فيستطيع مثلاً أن ينمّي قوته الجسدية بالرياضة البدنية والتدريب، فيصبح قويَّ الجسم، متينَ العضلات، ويستطيعُ أن ينمّي قوته الذهنية بالتدريبات العقلية، وتعلّم العلم، وإمعان الفكر، فيستنبِطُ ويكتشفُ ويخترعُ ويدبّرُ ويخطّط، ويستطيعُ أن ينمّي قوته الروحية بالامتناع عن بعض لذائذ الحسّ، وبالتأمّل وبإبعاد النفس شيئاً من الوقت عن عالم الحسّ القريب بصورة من الصور، فتصفو روحُه، ويكتسب طاقةً روحيةً كبيرة، كل هذه الأعمال هي في أصلها موهبة من الله، وهي فيما تنتهي إليه كسب يكسبه البشر بجهد يبذلونه، وتحصيل يكدون فيه ويكدحون.

أمّا الرسالة والنبوة فموهبةٌ من الله ذات طبيعة مختلفة، إنه لا يد للإنسان فيها ولا كسب ولا

اختيار، إنّما هي اصطفاء خالص من جانب الله سبحانه وتعالى لعبد من عباده يجتبيه، وينعم عليه، ويبعثه بالهداية إلى الناس.

قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *} [الحج: 75].

وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} [مريم: 58].

وقال سبحانه في إبراهيم عليه السلام: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} [البقرة: 130].

والنبوة واسطة بين الخالق والمخلوق في تبليغ شرعه وسفارة بين الملك وعبيده، ودعوة من الرحمن الرحيم تبارك وتعالى بخلقه ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وينقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الآخر، فهي نعمة مهداة من الله تبارك وتعالى إلى عبيده. وفضل إلهي يتفضل به عليهم، وهذا في حق المرسل إليهم. وأما في حق المرسل نفسه، فهي امتنان من الله يمن بها عليه واصطفاء من الرب له من بين سائر الناس وهبة ربانية يختصه الله بها من بين الخلق كلهم. ولا تنال النبوة بعلم ولا رياضة ولا تدرك بكثرة طاعة أو عبادة، ولا تأتي بتجويع النفس كما يظن من في عقله بلادة، وإنما هي محض فضل إلهي واصطفاء رباني، فهو جل وعلا كما أخبر عن نفسه: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [البقرة: 105].

فالنبوة لا تأتي باختيار النبي ولا تنال بطلبه، ولذلك لما قال المشركون: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: 31]، فأجابهم الرب تبارك وتعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ [الزخرف: 32]؛ فالله تعالى هو الذي يقسم ذلك ويتفضل به على من يشاء من الناس ويصطفي من يشاء من عباده، ويختار من يشاء من خلقه، ما كانت الخِيَرة لأحد غيره، وما كان الاجتباء لأحد سواه. (كتاب النبوات، ابن تيمية، 1/20)

وإنّ الإيمان بالنبوّة هو الطريق الموصل إلى معرفة الله ومحبته والمسلك المفضي إلى رضوان الله وجنته والسبيل المؤدي إلى النّجاة من عذاب الله والفوز بمغفرته. إذ يقول ابن تيمية – رحمه الله -: والإيمان بالنبوّة أصل النّجاة والسعادة، فمن لم يحقق هذا الباب اضطرب عليه باب الهدى والضلال والإيمان والكفر، ولم يميز بين الخطأ والصواب. (كتاب النبوات، 1/337).

وإن حاجة العباد إلى الإقرار بالنبوّة أشد من حاجتهم إلى الهواء الذي يتنفسونه، وإلى الطعام الذي يأكلونه، وإلى الشراب الذي يشربونه؛ إذ من فقد أحد هؤلاء خسر الدنيا، أمّا من عدم الإقرار بالنبوّة فخسارته أشد وأنكى، إذ خسر الدينا والآخرة – عياذاً بالله تعالى- ولا شك أن معرفة الله، والإيمان به وعبادته، ومعرفة رسوله وطاعته يحتاجه كل مخلوق مكلف، ومن حكمة الله تعالى أنه كلما كان الناس إلى معرفة شيء أحوج، فإنه جل وعلا يجعله سهلاً ميسراً غير ذي عوج. (درء تعارض العقل والنقل، 9/66)

ولحاجة الناس إلى معرفة النبوة، والإقرار بالرسول، فقد وضحها المولى عز وجل في كتابه توضيحا أعظم من أن يشرح في هذا المقال، إذ الشرح يطول، يقول ابن تيمية – رحمه الله -: فتقرير النبوات من القرآن الكريم أعظم من أن يشرح في هذا المقام، إذ ذلك هو عماد الدين، وأصل الدعوة النبوية، وينبوع كل خير وجماع كل هدى.

إن يوسف u النبي الكريم قام بواجب النبوة وتبليغ الرسالة على نهج إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، وإن يوسف عليه السلام من صفوة الخلق الذين أكرمهم الله بالنبوّة، وقام بدعوة التوحيد، وإفراد العبادة خير قيام، ونفع الله به الناس في عصره على مستويات عدّة في العقائد والأخلاق والاقتصاد وإدارة الأزمات. وكان قدوة مميزة كمّله الله بالأخلاق الفاضلة وعصمه من الشبهات والشهوات النازلة وساهم في تطهير النفوس وتزكيتها وتطهيرها من كل ما يضرها. وظهر أثره على كل من احتك به، من امرأة العزيز وصاحبيه في السجن والملك وإخوته…إلخ.

ومن الأمور التي تميز بها الأنبياء:

1- الوحي.

2- الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.

3- الأنبياء لا يورثون.

4- تخييرهم عند الموت.

5- لا تأكل الأرض أجسادهم.

6- العصمة.

وقد ذكرت تفاصيل ذلك بالأدلة وقضايا تتعلق بهذا الموضوع كالفرق بين النبي والرسول والنبوة والرسالة، وحقيقة النبوة والحكمة من بعث الرسل، ووظائف الأنبياء والمرسلين، وأهمية الإيمان بالأنبياء والمرسلين، وأولى العزم منهم في كتبي: (نوح عليه السلام والطوفان العظيم وميلاد الحضارة الإنسانية الثانية) و (إبراهيم خليل الله) و (وموسى كليم) فمن أراد التوسع فليرجع إليها.

 

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام”، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  • كتاب النبوات، ابن تيمية.
  • درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية.
  • نوح والطوفان العظيم، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير.
  • النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام، د. علي محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار المعرفة، 2023م.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى