فضيلة الدكتور : آبوبكر العيش
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله
فقد اعتاد أهلنا في (ليبيا) وبعض البلدان الإسلامية ، أن يطبخوا يوم عاشوراء (الفول والحمص) وبعض الحبوب الأخرى -يسميها بعضهم بـ(السليقة)- ، ثم يقومون بتبادلها بين البيوت هدية أو صدقة ، ولم يكن أحد في الأجيال الماضية يُنكر هذه العادة أو يحُرمها على الناس إلا ما ندر ، وظلت تلك العادة متوارثة إلى وقتنا الحاضر .
لكن الجديد الذي طرأ مصاحبا لتلك العادة ، هو حدة الإنكار على فعلها بدعوى أنها من البدع والمحرمات ، ويستدل الـمُنكرون بفتاوى قديمة وحديثة متباعدة عنا زمانا ومكانا ، تُحرم هذا الفعل بأدلة في أغلبها تدور حول أمرين :
الأول : عدم ثبوت حديث أو أثر من السلف يخصص يوم عاشوراء بشيء من الأطعمة أو الأشربة .
الثاني : في ذلك مجاراة لفرقة (النواصب) الذين يناصبون العداء لأهل البيت ، فقد خصصوا يوم عاشوراء بهذه المأكولات احتفالا منهم وفرحا بمقتل الحسين رضي الله عنه .
وبغض النظر عن أصحاب هذه الفتاوى من العلماء الأجلاء سلفا وخلفا ، فإن أسئلة تدور في خاطري أحببت أن أشارك فيها إخواني من طلبة العلم ، وألتمس تيسيرا لأهلي في (ليبيا) ، خاصة وأنهم يعتادون هذا الأمر عرفا عاديا منذ فترة ، بعيدا عن ضجيج الإنكار الديني ، فعلام يُنكر عليهم اليوم باسم الدين ، وقد عاشوا في كنف السادة المالكية دهرا من الزمن ، فلم يعنفهم أحد من فقهائهم يوما من الأيام .
أولا : متى كان الأصل في العادات المنع حتى نطلب عليه دليلا شرعيا من الكتاب أو السنة أو فعل السلف ، ألم يتفق العلماء على قاعدة أن (الأصل في العادات الإباحة) ، وفي حالتنا هذه عادة يفعلها الناس بدون ربطها بالدين ، خصوصا وأن عددا من العلماء قد نص في فتواه بهذا القيد ، يقول محمود محمد خطاب السّبكي المالكي (ت1352 هـ ) في كتابه (الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق 8/417) : “(ومن البدع) أيضاً طبخ الحبوب في يوم عاشوراء زاعمين أن لذلك مزية في هذا اليوم وأن له أجراً عظيماً لمن يفعله ويطعم الفقراء والمساكين” ، فذكر -رحمه الله- قيد الزعم بمزية هذا الفعل قصد التقرب وطلب الأجر .
وفي الحالة الليبية التي نعلمها يقينا ، ليس ثمة أحد من أهلنا في ليبيا يزعم أن أكل (الفول والحمص) له أجر عظيم وهو من مزايا هذا اليوم وفضائله ، فهم يأكلونهما فيه كعادتهم في أكل ما يسمى (الجريد) : وهو لحم الضلع المجفف في الشمس ، وكعادتهم يوم عيد الفطر في أكل (العصيدة) ، وكعادتهم في أكل (الشربة) طيلة أيام رمضان ، فكلها مناسبات دينية ربطوا فيها عادات أكل وشرب من باب العرف العادي ، ولا علاقة لأصل التدين والتقرب بذلك البتة .
ثانيا : مسألة مجاراة (النواصب) في فرحهم بمقتل (الحسين) رضي الله عنه ، إذ يزعم بعض الناس بأن هذه العادة قد أخذها أجدادنا منهم عن جهل !
أقول : لماذا الجزم بذلك وبناء الحكم عليه ، وهو مجرد ظن وتخمين ، لماذا لم يكن أجدادنا قد أخذوا هذا الأمر من سماعهم لقصة سيدنا نوح عليه السلام ؟ ، وقد ذكرها غير واحد من العلماء -بغض النظر عن جدلية ثبوتها من عدمه – ، جاء في كتاب (نهاية الزين في إرشاد المبتدئين) للإمام الجاوي الشافعي(ت 1316) ص196 : “…وحكي أن نوحا عليه الصلاة والسلام لما استقرت به السفينة يوم عاشوراء قال لمن معه اجمعوا ما بقي معكم من الزاد فجاء هذا بكف من الباقلاء وهو الفول وهذا بكف من العدس وهذا بأرز وهذا بشعير وهذا بحنطة فقال اطبخوه جميعا فقد هنئتم بالسلامة فمن ذلك اتخذ المسلمون طعام الحبوب وكان ذلك أول طعام طبخ على وجه الأرض بعد الطوفان واتخذ ذلك عادة في يوم عاشوراء ، وللحافظ ابن حجر شعر من الرجز في الحبوب التي طبخها نوح عليه الصلاة والسلام في يوم عاشوراء : سبع تهترس بر شعير ثم ماش وعدس حمص ولوبيا والفول هذا هو الصيح والمنقول … ” .
ولماذا لم يكن أجدادنا قد أخذوا هذا الأمر من تصحيح بعض العلماء لحديث (مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِيَالِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ) ، يقول الإمام الأجهوري(ت1066هـ) : ” وحاصله أن ما ورد من فعل عشر خصال يوم عاشوراء لم يصح فيها إلا حديث الصيام والتوسعة على العيال” (إعانة الطالبين) 2/301 ، ونُقل عن سفيان بن عيينة : قد جربناه منذ خمسين سنة أو ستين فما رأينا إلا خيرا .
وذكر الإمام محمود محمد خطاب السّبكي المالكي عن ابن الحاج قوله : “يوم عاشوراء موسم شرعي والتوسعة فيه على الأهل واليتامى والمساكين والصدقة مندوب إليها بلا تكلف وأن لا يصير ذلك سنة يسنن بها لابد من فعلها. فإن وصل إلى هذا الحد كره ” ، وفيه دلالة أيضا على ما ذكرناه آنفا من قيد قصد التقرب والتسنن بمثل هذه الأفعال ، حتى لا تدخل في البدعة المنهي عنها .
ولماذا لا يكون أجدادنا قد أخذوه من أصل مشروعية الفرح بهذا اليوم ، حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا اليوم قد نجّى فيه الله تعالى سيدنا موسى من فرعون ، وذكر بأننا أحق بسيدنا موسى من اليهود ، في إشارة إلى معنى الفرح والاستبشار الذي كانت يهود تحمله تجاه هذا اليوم العظيم ، فشرع النبي صلى الله عليه وسلم صيامه تميّزا عليهم في الأحقية بالفرح لنجاة سيدنا موسى ، مع مخالفتهم فيما بعد بصيام يوم قبله ، فمقصد التذكير بهذا اليوم في أصله مقصد فرح وسرور ، والتعبير عن الفرح كما يكون بالعبادة المشروعة ، فإنه يكون بالعادة المباحة .
ولا وجه لإنكار الفرح بحجة مشابهة (النواصب) في شماتتهم بمقتل الحسين رضي الله عنه ، ونكايتهم في فرقة الروافض الشيعة ، فإن هذا الأمر لا يحدث في (ليبيا) تشبها بهم ، إذ لا يحمل تاريخ ليبيا القريب ولا البعيد أي دلالات لانتشار النواصب أو الشيعة على أرضها ، بل إن أجدادنا في أغلبهم لا يتخيلون هذه الأسماء فضلا عن معرفتها .
وما الضير إذا وافق يوم عاشوراء مقتل سيدنا الحسين رضي الله عنه ، مع حزننا وتأثرنا بما حدث له من قتل وظلم وعدوان ، إلا إن أصل المشروعية الثابت لا يتأثر بحوادث الزمان المتغيرة ، فهل إذا وافق عيد الفطر يوم الإثنين الذي توفي فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم ، نوقف فرحنا بالعيد وتجملنا له ، بسبب تذكرنا وحزننا لفراقه صلى الله عليه وسلم – مع تحققه في كل وقت – بالطبع لا .
من هذا العرض المختصر جدا ، يتبين الإشكال الحقيقي في إنكار البعض على أهلنا إعدادهم لطعام (الفول والحمص) يوم عاشوراء ، وأنه لا دليل قوي ولا حجة بالغة على هذا الإنكار ، سوى اجترار فتاوى بعيدة عن واقعنا زمانا ومكانا ، وأن الأصل في مثل الأمر الإباحة مادام لا يفعل بقصد التقرب ولا بقصد التشبه بأعداء أهل البيت من النواصب في التشفي من مقتل سبط النبي صلى الله عليه وسلم : سيدنا الحسين رضي الله عنه .
فيسّروا على الناس ما كان من عاداتهم التي لا تعارض الشرع ، وبشروهم بقبول صيامهم وطاعاتهم ، وخذوا بأيديهم إلى فضائل الأخلاق والأقوال والأعمال في حب وإخلاص ، فإن الخطب يسير ، ولنتذكر جميعا حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه : وذكر أنه “صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورأى من تيسيره” ..