عام

حكم المسح على الجوربين

د. ونيس المبروك

مع دخول فصل الشتاء يكثر السؤال عن حكم المسح على الجوارب، وفيما يلي جوابي في هذه المسألة، ولأهمية المسألة وكثرة الجدل فيها وحولها توسعت قليلا في المقالة:

المسح على الجوربين جائز مادام الجورب لا يظهر لون الجلد تحته، وتم لبسه بعد الوضوء، فيمكن للمقيم أن يمسح لمدة يوم وليلة وللمسافر ثلاثة أيام.

أولاً: الأدلة من السنة وأفعال الصحابة
.
جاءت رخصة المسح على الخفين والجوربين وما في حكمِهما بأدلة من السنة النبوية وبعض الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين، وكذلك القياس.

ومن هذه الأدلة ما أخرجه الإمام أحمد في المسند والترمذي في السنن، وابن ماجة وابن حبان والبيهقي، وابن خزيمة عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تـوضأ ومسـح عـلى الجوربين والنعلين». وكذلك ما أخرجه أبو داوود في السنن والحاكم في المستدرك وأحمد في مسنده، عن ثوبان رضي الله عنه قال «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين». والعصائب هي العمائم، والتساخين كل ما تسخن القدمين من خفاف أو جوارب، قال ابن الأثير في النهاية: «العصائب هي العمائم؛ لأن الرأس يعصب بها، والتساخين: كل ما يسخن به القدم من خُفٍّ وجَوْرَبٍ ونحوهما، ولا واحد لها من لفظها..» ومن الأدلة كذلك ما أخرجه ابن ماجة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه «أن رسول صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين». وكذلك ما رواه عبد الرزاق بإسناده أن عليًا وابن عمر وابن مسعود والبراء بن عازب وأبا مسعود الأنصاري رضي الله عنهم مسحوا جميعاً على الجوارب. وروى ابن أبي شيبة في مصنفه بإسناده أن عُمر توضأ يوم جمعة ومسح على جوربيه ونعليه.
وتنوّع الأحاديث بين المسح على الجورب والمسح على الخفين هي روايات في وقائع مختلفة، أي أن جُل اختلاف الأحاديث في هذا الباب هو اختلاف وقائع لا اختلاف روايات.

ثانيا: أقوال بعض الأئمة في الفقه

ومما نُقل عن الأئمة الأعلام ما قاله الإمام النووي في المجموع: «وحكى أصحابنا عن عمر وعلي رضي الله عنهما جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقاً، وحكوه عن أبي يوسف ومحمد وإسحاق وداوود».. وقال: «وحكى ابن المنذر إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من الصحابة علي وابن مسعود وابن عمر وأنس وعمار بن ياسر وبلال والبراء وأبي أمامة وسهل بن سعد»، وقد أورد الإمام ابن القيم في تهذيب سنن أبي داوود عند كتاب الطهارة، باب كيف المسح، عددا من التابعين وهم: إسحاق بن راهويه, وعبد الله بن المبارك، وسفيان الثوري، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري, وسعيد بن المسيب، وأبو يوسف.
والمسح على الجوربين هو قول للإمام أحمد وأهل الظاهر وأبي يوسف ومحمد وزفر من أصحاب أبي حنيفة، بل إن أبا حنيفة رجع عن قوله بالمنع، كما نقل الإمام الكاساني في بدائع الصنائع: «أن أبا حنيفة كان يقول بعدم جواز المسح على الجوربين وكان أبو يوسف ومحمد يخالفانه في ذلك ويريان جواز المسح وأن الإمام رجع عن قوله إلى قولهما في آخر عمره وذلك أنه مسح على جوربيه في مرضه ثم قال لعواده: فعلت ما كنت أمنع الناس عنه».

.
ثالثا: أهم شرائط المسح

يشترط للمسح على الجورب أن يكون الجورب طاهرا لا يحمل نجاسة، وأن يغطي الكعبين، وألا يكون شفافا وجوده كعدمه أو أن يظهر لون البشرة، وأن يلبسه المسلم بعد الوضوء، لحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه «كُنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر، فأهويت لأنزع خُفيّه، فقال: دعهما فإنّي أدخلتهما طاهرتين». والمسح يكون أعلى الجورب وليس من أسفله، والجمهور على أن مدة المسح للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها، ويبطُل المسح إذا انتهت مدته أو طرأ ما يقتضي الغسل من الجنابة، أو نزع أحد الجوربين إلى ما تحت الكعبين، وتبدأ مدة المسح من الوقت الذي نقض فيه الوضوء ثم مسح، وليس من أول لبسه للجورب، ولا يشترط أن ينوي المسح على الجوربين عند لبسهما.
ولا يشترط أن يكون الجورب من الجلد، فقد ذهب بعض الأئمة الأعلام لجواز المسح على الجورب وإن كان قماشاً؛ قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى «يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما سواء كانت مجلدة أو لم تكن في أصح قولي العلماء»
ولهذه الاعتبارات نص العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله: «أن كل المروي في المسح على الجوربين مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه قيد ولا شرط ولا يفهم ذلك لا من منطوقه ولا من مفهومه ولا من إشارته وجلي أن النصوص تحمل على عمومها إلى ورود مخصص وعلى إطلاقها حتى يأتي ما يقيدها ولم يأت هنا مخصص ولا مقيد لا في حديث ولا أثر.»
قال ابن حزم رحمه الله في كتابه المُحلى بالآثار: «اشتراط التجليد خطأ لا معنى له لأنه لم يأت به قرآن ولا سنة ولا قياس صاحب. والمنع من المسح على الجوربين خطأ لأنه خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلاف الآثار ولم يخص عليه الصلاة والسلام في الأخبار التي ذكرنا خفين من غيرهما»، وقال أيضا: «والمسح على كل ما لبس في الرجلين مما يحل لبسه مما بلغ فوق الكعبين سنة سواء كانا خفين من جلود أو لبود أو عود أو حلفاء أو جوربين من كتان أو صوف أو قطن أو وبر أو شعر…»

رابعا: هل يجوز قياس الجورب على الخف في رخصة المسح؟

أنكر بعض المعاصرين قياس الجورب على الخف، بحجة أن الأصوليين منعوا القياس على الرخص!
ولا يخلو هذا الكلام من تعميم؛ فالقياس على الرخص جائز إن كان هناك وجه معتبر للقياس، فالرخص في شريعتنا تخفيفٌ وتيسير وهدية إلهية، ومتى ما وجدنا المعنى والعلة في حكمٍ، فإن القياسَ تكثيرٌ لتلك الِمنح وحفاظٌ على الحكمة وتحقيق لمقاصد التشريع؛ قال الإمام الطاهر بن عاشور في كتابه التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح «القياس على الرخص هو صريح مذهب مالك، وشرطه تحقق وجود سبب الرخصة»
وقد نص القاضي عبد الوهاب البغدادي في كتابه الإشراف على نكت مسائل الخلاف على جواز قياس الطين على المطر بجامع وجود المشقة، وعلل قائلا «لأن المشقة باقية»! وقاس الفقهاء الثلج على المطر لأن قاصد المسجد يتأذى منهما.
وقد ناقش الإمام الهمام القرافي المالكي هذه الاحترازات فقال في شرح تنقيح الفصول: «أن الدليل إنما يخالفه صاحبُ الشرع لمصلحةٍ تزيد على مصلحة ذلك الدليل عملاً بالاستقراء، وتقديمُ الأرجح هو شأن صاحب الشرع، وهو مقتضى الدليل، فإذا وجدنا تلك المصلحة التي لأجلها خولف الدليل في صورةٍ وجب أن يُخَالَف الدليلُ بها عملاً برجحانها؛

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى