عاممقالاتمقالات تربويةمقالات فكرية

حين تسقط الأقنعة ويبدأ الاصطفاف

د. جمال عبدالستار

يتساءل العقل المسلم كثيرًا، ويتردّد صدى السؤال في أروقة الفكر: أفي خضم هذه العواصف المتتابعة، والمحن المزلزلة، نقف على أبواب الدخول إلى تيه جديد، لا ندري كم يطول ولا متى يكون الخروج منه؟ أم أننا، على العكس، نلامس أول شعاعٍ من فجر الخروج من تيهٍ قديم طال مكثنا فيه، واشتدت علينا ظلماته، وكابدنا فيه من الآلام ما لا يعلمه إلا الله؟

وأزعم -والعلم عند الله تعالى- أن الأمة تقف اليوم على أعتاب الخروج من التيه الذي رزحت تحته عقودًا، وأنها بدأت تضع قدمها على العتبة الأولى من عتبات النهضة والتمحيص، ومن آيات هذا الخروج وبوادره المبشرة ما يلي:

– الانكشاف والتمايز:

هذا الانكشاف الواسع الذي ظهر لكل مستبصر، وهذا التمايز الحادّ المؤلم، الذي لم يدع رمادية في المواقف، ولا لبسًا في التصورات، حتى غدت الحقائق جلية، والأدوار مفضوحة، والوجوه عارية من أقنعتها المتقنة، فما نراه اليوم من صراعٍ فكريّ، وتحولاتٍ اجتماعية، وغربلةٍ قاسية في صفوف الأفراد والكيانات، ما هو إلا صورة من صور قول الله عز وجل: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (آل عمران: 179).

فتمييز الخبيث من الطيب سُنة ربانية ماضية، وغربلة الأمة قبل نهوضها ضرورة تمهيدية، وقبل أن تتسلم الأمة راية الشهادة على العالمين، لا بد أن تُمحّص، وتُصفّى، وتُعرّف بحقيقتها؛ (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة وإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال: 42).

– الإمامة الكاذبة:

حينما تدرك الأمة أنها كانت في التيه تصلي لغير القبلة الحقيقية، وتجاهد في غير ميدان النضال، وتدرك حقيقة كثير من الأئمة الذين وقفوا في المحراب للاقتداء بهم، واصطفت للصلاة خلفهم، ومنحتهم كامل ثقتها، وعظيم تقديرها، وكامل احترامها، فلما انقشع الظلام وبدت لوامع الفجر، بان للأمة أن بعضاً من أئمتها مزيفون، وبعضهم تصدر للإمامة بلا وضوء، وبعضهم كانت قبلته هواه، ومحرابه صنم نفسه، ولعاعة رغبته، ووضاعة مقصده! فإنها يومئذ قد تخلصت من كتائب الدجالين، وكهنة المعابد، وذئاب الليل، فما أسعدها بيوم الخلاص! وما أقربها لشاطئ الأمان!

– الحدود والأعلام:

حينما تدرك الأمة أن حدودها التي ما فتئت تقاتل لحمايتها، وتتغنى بمتانتها، وتفخر بارتفاعها وصلابتها، ما هي إلا قضبان سجونها، وأسوار زنازينها، وسلاسل قيدها، وأسباب ضعفها، وما هي إلا أسوار أقامها الطغاة ليحولوا بينها وبين باقي أعضاء جسدها، حتى لا تستمد منهم قوتها، ولا يكتمل بهم بنيانها، ولا يتوحد بهم شملها، ولتظل مقطعة الأجزاء متفرقة الأنحاء متباعدة الأطراف، يحبس الطغاة كل عضو منها في قفص خاص ليسهل عليهم تقطيعه، وتفتيته، فإنها يومئذ قد بدأت خطواتها نحو الخروج، وانطلاقها نحو المستقل الرحيب.

– حين يسقط القناع:

حينما تُدرك الأمة أن الجلاد قد ارتدى ثوب القاضي، وأن منصة القضاء في أكثر مواطنها ما هي إلا موطئٌ لتقنين المظالم، وشرعنة الاستبداد، وتجميل الطغيان، وتطهير سيرة الجناة من دنس الخيانة والفساد!

وحينما تكتشف –بصدمة الفاجعة– أن اللص المحترف هو ذلك الضابط الرفيع، وأن الخائن المندس هو أمين الشرطة الذي احترف التزوير والتضليل، وأن من يغتال أمنها ويغتصب كرامتها هو ذاته من أُوكل إليه حماية حُرماتها وسلامها!

فحينها، تُدرك الأمة –بوعي اليقظة– أنها بدأت تخرج من أنفاق التيه، وتسير على طريق النور، وتتنفس نسائم الفجر الصادق.. ذلك هو الوعي حين يشرق، والحق حين يُكشف، والمستقبل حين يُولد من رحم الألم والخذلان.

– حينما تسقط الأصنام:

حينما ترى الأمة أن أكثر النُّخب السياسية والثقافية، والفكرية والإعلامية، والفنية والدينية والحقوقية –تلك التي كانت في كهف التيه نجوم هدايتها، ورموز قدوتها، ومنابع إلهامها، وزينة محافلها– ما هي في الحقيقة إلا دمى مصنوعة، وأوراق محروقة، وأحجار مرصوصة، وكذبة محبوكة، وقرود مدربة على الرقص في كل الساحات، والقفز على كل الحبال!

فإني أجزم -والعلم عند الله- أن هول الصدمة كفيل بإعادة وعيها، وإيقاظ بصيرتها، وفتح عيونها على الحقيقة، وإرشادها إلى الطريق الصحيح، ليكون لها بعد الغفلة يقظة، وبعد التيه مسار، وبعد الانخداع فلاح ونهوض.

– على مشارف اليقظة الكبرى:

حينما تُصبح الحرب على الإسلام والمسلمين أمراً جلياً لا لبس فيه، ويغدو العداء للهوية عقيدة راسخة لا جدال حولها، وتتهاوى أمام العيان أصنام الحريّة الزائفة، والديمقراطية الفاجرة، ويُفضَحُ عفنُ المنظمات الدولية، وتنكشف وَضاعة أكثر المؤسسات الحقوقية.

وحين تُدرك الأمة –وقد آن لها أن تُبصر– أن النصر لا يُهدى بلا إعداد، ولا يُنال بلا بذل، وأن الجوع لا يُسَدّ بلا إنتاج، والأمن لا يتحقق بغير جهاد، والنهضة لا تقوم إلا بعلم وعلماء، والنجاح لا يُرجى إلا بتعاون صادق وبذل جماعي، والانطلاق نحو المعالي لا يكون إلا بالتضحية والفداء.

فإنها بلا شك قد خرجت من كهف التيه، ولامست أول الطريق، وأبصرت طبيعة المعركة، ووعت حقائق الأمور، وأسرعت لامتلاك أدوات المواجهة والبناء.

– حين يُدرك الفرد مهمته:

في خضم التحوّلات الكبرى، لا يبقى للفرد خيار التفرّج أو التراخي؛ بل عليه أن يُعدّ نفسه ليكون صالحًا للاستخدام، مؤهّلًا للاستعمال، مستحقًّا لمقام الاستخلاف.

فعلى كلّ ابنٍ من أبناء هذه الأمة أن يُراجع زاده، ويشحذ أدواته، ويتأهّب لمسؤوليات المرحلة، قبل أن يُطوى اسمه في سجلات المنسيّين، أو يُقصى إلى هامش العاجزين، أو يُستبدل بغيره في ميدان الساعيْن نحو المجد والتمكين.

إن السباق الحضاري، لا ينتظر المتثاقلين، ولا يرحم الغافلين.

استعدوا لوثبة الأسد الجريح

تأهّبوا لوثبة الأسد الجريح، إذا نهض من كبوته، وزأر بعد صمته، ودَوَّى زئيره في الآفاق، وارتعدت له فرائص الطغاة، وارتجّت له عروش الظالمين، فليتأهب العالم لصوت لا يخرج إلا إذا آن أوان التغيير.

وانشروا في الأرجاء عبير الأمل، وانفثوا في الأرواح نسائم الرجاء، وبشّروا الغادي والرائح أن الغدَ المذخورَ عند الربِّ الكريم، يحمل في طيّاته بشائر الخير، وصباح البصيرة، وأنوار الإدراك، وتطلعات اليقين.

فهو فجر قادم لا محالة، يُشرق على أمةٍ وعَت، وقلوبٍ صدقت، وسواعدَ استعدّت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى