خطيئة إحياء المشاكل الفكرية التارخية
د.شيروان الشميراني
من يتفاعل مع الاحداث الفكرية والسياسية على الساحة الإسلامية عموماً، يظن بأن الانغماس في مواجهة المشاكل التي تعترض الطريق هو مسلك جميع المهتمين، لكن يبدو الأمر ليس هكذا تماماً وإنما مازال البعض يعيش مع التاريخ ويسحب اشكالياته كأنه واقع مُجابَه، في بعض البلدان ومنها بلدي، خلال أسابيع مضت على كتابة هذا المقال حدثت حالات من المجابهة أشغلت مختلف الأوساط الثقافية والإعلامية ومنصاتها، بإعادة الحديث على الإختلافات الفكرية التي كانت طاغية في العصور السالفة أو القديمة جداً، أي التناطح الفكري بين مختلف المدارس الإسلامية داخل أهل السنة والجماعة أو بينهم وبين غيرهم، تحديداً بين الأشاعرة أو من يأخذون برأي أبي الحسن الأشعري والماتريدي في تفاصيل متعلقة بالعقيدة، أو الآراء عموماً، حيث تَعرَّض البعض إلى شخص الشيخين الجليليين، وحياتهما، هذه التوجهات الفكرية أو الهياكل العلمية المستندة على تلك الخلافات من أجل الاستمرار والبقاء والإحتفاظ بالمميزات التي تفصلها على الآخرين، هذه التوجهات مصرة على البقاء في أحداث التاريخ والتعرض لشخصياتها ليس نقداً علمياً بقدر ما يكون تجريحاً وتسقيطاً ومَسَّاً شخصياً، ثم الردّ والردّ المتبادل والنظر الى ذلك كأنه جهاد في سبيل الله.
العقل السليم والمنطق الصحيح يحكمان، بتجاوز التاريخ بكل مشاكله والإقتصار على دراسته من أجل الفائدة منه، أي من المنهج والطريقة لمواجهة الإشكاليات المستجدة، وليس إحياء همومها، لأن ذلك يصرف الجهود في غير محله ويسبب التشاحن وتفريغ المشروع أو التيار الإسلامي من الداخل، لأن تلك التفاصيل التي أجبرت المسلمين الخوض فيها، لم تعد موجودة أو بنفس الحيوية، بل هي لا تتجاوز الدراسة التاريخية، وعامة المسلمين لا يفهمونها من الأساس ولا يهمهم فهمها، كما تستغل من قبَل الأطراف التي تضع الأفخاخ في الطريق ثم عدم التفرغ إلى ما يطرح في الساحة من الشبهات والشكوك ضد الإسلام، وإنها تحدي من التحديات الداخلية التي تعيق العمل.
من هذا المنطلق، وإستناداً إلى قراءة التاريخ وقوانينه المجتمعية، قال أئمة الفكر الإسلامي الحديث بإهالة التراب على المشاكل التاريخية والإقبال الكامل على المشاكل المعاصرة التي تتجدد وتتكاثر وتتنوع بمرور الأيام. نذكر منهم ثلاثة :-
- الإمام سعيد النورسي، كل من يقرأ رسائل النور قراءة منهجية وهو يستحضر الفكر الإسلامي عبر تأريخه، لا يخطيء ملاحظة أنه رحمه الله تجاوز الاهتمام بالإشكاليات التاريخية مع علمه الكامل بها، ولم يكن يتطرق الى الفِرق ولا إلى مواجهاتها سوى بقدر ما يفيد في توضيح الحقائق الدينية في العصر الحديث، كان يرى
أن العالِم لا بد أن يتحدث بما يكون موافقاً لحاجات العصر وما يناسب تشخيص عِلَلِهِ، وعليه يوجه لوماً إلى الوعاظ والخطباء ويجعل غيابهم وذهولهم عن الواقع وجدالاته سبباً لعدم تأثير كلامهم في الناس وتبقى نصائحهم خالية من التأثير في المستمع ولا تعطي الثمرة المتوخاة منها. يقول رحمه الله: ( إن مطابقة الكلام لمقتضى الحال هي أرقى أنواع البلاغة، فلابد أن يكون الكلام موافقاً لحاجات العصر. إلا أنهم [ الخطباء والوعاظ] لا يتكلمون بما يناسب تشخيص علة هذا العصر، وكأنهم يسحبون الناس إلى الزمان الغابر، فيحدثونهم بلسان ذلك الزمان)”1”
فكان النورسي يركز في كل رسائله على ما يواجهه الإسلام والمسلمون من تحديات فكرية حديثة بعد إزاحة الإسلام عن الحياة وشؤون الدولة وفرض التغريب، ونشر الشكوك والريبة داخل المجتمع، لمواجهة إشكاليات الالحاد وسموم المدنية الغربية، وفلسفاتها الطبيعية المادية، فقد انهمك بالاعتماد على القرآن الكريم والعلم الحديث على إثبات حقائق التصور والمذهبية الإسلامية بما يتناسق مع الحاجات الحديثة ليكون كلامه موافقاً لحاجات العصر.
- العلامة المجتهد يوسف القرضاوي عند حديثه عن الأولويات الفكرية التي على الحركة الإسلامية الاهتمام بها، والفكر الذي ينبغي أن يسود في المراحل المقبلة، يشترط الابتعاد عن الفكر الجدلي التاريخي المهتم بالمشاكل التي عانى منها الائمة السابقون، يقول 🙁 نريد من الفكر الجديد أن يهيل التراب على المشكلات التاريخية الني شغلت الفكر الإسلامي في وقت من الأوقات، وبددَّت طاقته في غير طائل، مشكلة الذات والصفات، هل الصفات عين الذات أو غيرها؟ أو هي لا عين ولا غير؟، مشكلة خلق القرآن وما ترتب عليها من محنة لأئمة الإسلام، المبالغة في الكلام حول التأويل وعدمه بين السلف والخلف والطعن على الاشاعرة والماتريدية ومن وافقهم على نهجهم من رجالات الجامعات الدينية في العالم الإسلامي… كل هذا لا ينبغي أن يكون مشغلة الفكر الذي نُعِدُّه للمرحلة القادمة)”2″.
- الأستاذ المفكر محسن عبدالحميد في كل كتاباته الفكرية يؤكد ويعيد التأكيد على عدم سحب مشاكل التاريخ الى الحاضر ووجوب تجاوزها، يرى أن البقاء في التاريخ ونزاعاته يشكل تحدياً من التحديات الداخلية التي تواجه المشروع الإسلامي المعاصر عموماً والمنهج الوسطي على وجه الخصوص، ( إن الفلسفات الحديثة التي توجه الحضارة المعاصرة لا تناقشنا في تفسيرات ما سميت بفروع العقيدة، وإنما هي تنكر وجود الله فضلاً عن صفاته وتنكر النبوة واليوم الآخر، وكل ما جاء به الدين الحق. فمواقفنا اليوم غير مواقف أسلافنا بالأمس، ومناقشاتنا تخص مناهج تختلف عن المناهج التي تحرَّك في ضوئها السابقون من علماء الأمة في تاريخنا).”3”
وبما أن إحياء تلك المشاكل التي كانت وليدة زمانها تحيي مع حياتها التفرق والخصومات التي رافقتها، كانت الدوائر الغربية وتلك التي لا تريد للمشروع الإسلامي الإقامة، عملت على إعادة نشر الحديث عنها، والحث عليها، ومن المدارس الفكرية من يقوم ويستند على تلك الخلافيات الجدلية التاريخية، فلم يسمح لها الحصر في الدوائر العلمية البحثية المتخصصة، بل نشرها على الملأ وفي المساجد ودروس الوعظ العام، وونفث المغرضون في نارها. وبذلك أُرتُكِبت جريمة بحق المسلمين عموماً لما رأوا النخبة تتناطح..
*صيقل الإسلام، 445.
- أولويات الحركة الإسلامية، 107.
- المشروع الإسلامي المعاصر أمام التحديات، 250.و كذلك كتابيه ( تجديد الفكر الإسلامي، أزمة المثقفين تجاه الإسلام في العصر الحديث).