دروس من غزوة بدر الكبرى
الشيخ محمد العوامي
تمرّ بنا في كل عام ذكرى غزوة بدر الكبرى، التي تعد من أهم المعارك في تاريخ الإسلام، حيث فرّق الله بها بين الحق والباطل، وأظهر قوة المسلمين في مواجهة الأعداء والدفاع عن دينهم، وقد سماها الله بـ “الفرقان” في قوله تعالى:
{…إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأنفال:41).
جرت أحداثها في العام الثاني للهجرة، بلقاء المسلمين بجيش كفار قريش المكون من نحو 1000 مقاتل على اختلاف الروايات، في مكان يسمى بدر، حيث كانت موازين القوة ترجح كفّتهم مقابل جيش المسلمين المقدر بـ313 مقاتلاً غير مجهز للقتال، لأنهم لم يخرجوا بغية القتال، وإنما رافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أرادوا عير قريش وما فيها من التجارة، ولكن الله أراد أمراً آخر، فالمسلمون كانوا يخططون لأمر ما، إلا أنهم تفاجؤوا بموقف لم يكن في حسبانهم، فما كان موقفهم يا تُرى؟ بالطبع كان موقفهم موقف الثبات والسمع والطاعة والثقة بنصر الله ووعده.
وقد أسفرت هذه المعركة عن النصر العظيم للمسلمين، وذلك بفضل إيمانهم بالله وثقتهم بدينهم، فقُتل من جيش قريش نحو 70 مقاتلاً، وأُسر 70 آخرون، كما تحصلوا على غنائم كثيرة، لكن الأهم من ذلك كله هو أن المسلمين أظهروا قوة إيمانهم بالله وعزمهم الدفاع عن دينهم، وهذا ما جعلهم يحظون بالاحترام والتقدير في أعين الناس.
هذه الغزوة العظيمة مليئة بالدروس والعظات والعبر وما أحوج الأمة اليوم -وهي تعاني ما تعانيه- إلى أن تتأملها لعلها تجد ما تقوى به لتستعيد مجدها وعزتها.
ومن أهم الدروس ما يلي:
1. الجهد المبذول والتحضير المسبق يؤدي إلى النجاح، فقد قام رسول الله ﷺ بالتحضير جيدًا قبل المعركة، حيث قام بتشكيل الصفوف وتوزيع الأدوار وتعزيز الروح المعنوية للمجاهدين، وبفضل ذلك، تمكن المسلمون من تحقيق النصر.
2. اليقين والثقة بالله وحتمية انتصار هذا الدين وأهله، والإيمان بأن الله جل في علاه هو الذي يسيّر هذ الكون وفقاً لحكمة يريدها سبحانه، وقد يكون الأمر على خلاف وعكس مراد البشر؛ فهذا رسول الله ﷺ ومن معه خرجوا يريدون عير قريش ولكن الله أراد أمراً آخر واسمعوا معي لربنا يخبرنا عن ذلك بقوله:
{ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ () لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } (الأنفال:7-8).
فقد ظهر هذا الدرس بوضوح في مواقف كثيرة خلال هذه الغزوة، فعلى الرغم من أن المسلمين كانوا أقل عددًا وتجهيزًا، إلا أنهم كانوا متوكلين على الله موقنين بنصره، ولقد أعطى الله المسلمين النصر، ذلك بسبب ثقتهم به واعتمادهم عليه.
3. الثبات والصبر، وذلك يظهر جليا في امتثالهم لأوامر النبي ﷺ بالاستعداد للقتال، فيثبتون في مواجهة الصعاب وإن كان فيها سفك دمائهم وهذا ما يميز هذه الأمة الصادقة في إيمانها عن غيرها، فقوم موسى يوم أن دعاهم نبيهم لدخول الأرض المقدسة تململوا واعترضوا بل تجرؤوا حتى على ربهم ولنتأمل معا قول ربنا جل وعلا مخبرا عنهم: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ()يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ()قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ()قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ()قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } (المائدة:20-23).
أما أصحاب النبي ﷺ لما فوجئوا بأمر القتال ولم يكونوا مستعدين له لا نفسياً و لا ماديا؛ نرى ذلك فيما يرويه المقداد بن عمرو:
(يا رسول الله، امض لما أمرك الله به، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:
{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة: 24]
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى “بَرْك الغِماد” -يعني مدينة الحبشة- لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه).
4. الوحدة والتعاون: يجب على المؤمنين أن يكونوا متحدين ومتعاونين في جميع المواقف، فالوحدة والتعاون هما الأساس في تحقيق النصر والتمكين، وهذا ما فعله المسلمون في غزوة بدر حيث بذلوا جهودهم المشتركة لتحقيق النصر.
5. التوكل على الله: يجب على المؤمنين أن يتوكلوا على الله في جميع أمورهم، فالنصر ليس بالأسلحة والقوة العسكرية فقط، بل بالتوكل على الله والاعتماد عليه، وهذا ما نراه جليا في هذه الغزوة.
6. العدل والمساواة: فقد تعلم المسلمون في هذه الغزوة الأسلوب الصحيح لمعاملة الأسرى، حيث قام الرسول صلى الله عليه وسلم بإطلاق سراح الأسرى بمقابل المال أو تعليم المسلمين القراءة والكتابة وأنه يجب على المؤمنين أن يعاملوا الجميع بالعدل والمساواة، فالإسلام يحث على المساواة بين الجميع، بغض النظر عن العرق واللون والجنس والدين، وهذا ما فعله المسلمون في غزوة بدر الكبرى، حيث لم يعاملوا الأسرى بسوء ولم يظلموا أحداً منهم.
7. الإيمان العميق بالآخرة حتى كأنهم يرون الجنة والنار رأي العين فهذا النبي ﷺ يحمس أصحابه فيقول قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، فيلقي عمير بن الحمام ثمرات كان يأكل منها ويندفع ليقاتل في سبيل الله وكأنه مندفع لأبواب الجنة يراها مشرعة أمام عينيه، مثل هذا الإيمان العظيم لا يأتي -أحبتي في الله- من فراغ؛ وإنما من مجاهدة النفس والاجتهاد في الطاعات والقربات، والخلوة بالله.
8. الشورى: يؤكد مبدأ الشورى أهمية الرأي الجماعي واستشارة الآخرين في صنع القرارات، فقد كان النبي ﷺ يتشاور مع صحابته في مختلف الأمور، على الرغم من أنه كان يتلقّى الوحي. ففي معركة بدر؛ فقد استشار النبي ﷺ الصحابة حول قتال المشركين أو العودة إلى المدينة بعد نجاة القافلة، على الرغم من ميله ﷺ إلى القتال، إلا أنه طلب رأي الصحابة في هذا القرار، على ما قد تسبب العودة من آثار سلبية، وتشجع المشركين على الاستمرار في العداء، ما يؤدي إلى المزيد من الخسائر، لذلك يظهر هذا المثال أهمية الشورى في صنع القرارات المهمة.
9. الدعاء: هو أحد الأساليب الفعّالة في مواجهة الأعداء، ويعتبر سلاحاً فتّاكاً للمؤمنين في جميع الأزمان؛ فقد قام النبي ﷺ بتنظيم صفوف جيشه واستخدام كل الوسائل المتاحة له، ثم عاد إلى عريشه الذي بني له بصحبة أبي بكر وسعد بن معاذ الذي كان يحرس بابه وهو يحمل سيفه، بعد ذلك توجه النبي ﷺ إلى الدعاء قائلاً: “اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض”.
ويمكن القول إن هذا الحديث يعكس أهمية الدعاء في حياة المؤمنين، فالدعاء يعد سلاحاً قوياً وفتاكاً في مواجهة الأعداء، حيث يمنح المؤمن الثقة بالله ويعزز إيمانه ويجعله يشعر بالقوة والثبات، وبالتالي يمكن للمؤمنين أن يستخدموا الدعاء للتغلب على الصعوبات والتحديات بأنواعها، مع الأخذ بالأسباب.
10. الحكمة في التعامل مع الأعداء، حيث أظهر الرسول صلى الله عليه وسلم حرصه على الحصول على المعلومات القيمة من الأعداء، واستغلالها في خدمة الإسلام، وبذلك نتعلم كيفية التعامل بحكمة وذكاء مع الأعداء، واستخدام كل الموارد المتاحة لنا في خدمة الهدف النبيل.
▪️ معاشر المؤمنين.. نعم هكذا انتصرت أمتنا أمة الإسلام العظيمة وحكمت العالم يوم أن تخلقت بأخلاق النصر، فهي أمة رباها ربها على أن الخير فيما اختاره لها وقدره عليها، وليس فيما يتناسب مع رغباتهم وجعل تلك التربية دائمة مستمرة خلدها بآية في كتابه يوم أن قال:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة:216)
في الختام،
إن دروس غزوة بدر الكبرى لا تقتصر على النقاط السابقة فحسب، بل غيرها كثير قد يستفيد منها المسلمون في حياتهم اليومية، فالغزوة كانت درساً للتضحية والإيمان والثبات، وكأنها كانت تذكيراً لنا بأن نستفيد في حياتنا اليومية، بداية من معنى الإيمان والثقة بالله، إلى التحضير والاستعداد الجيد، والوحدة والتضامن، والعدل وغيرها.