مقالاتمقالات تربوية

دعوة القرآن للنظر والتفكر لمعرفة سنن الله في الأمم السابقة

الدكتور : رمضان خميس 

عني القرآن الكريم بالدعوة إلى النظر والتفكر في الكون المسطور والمنظور، فتجد آيات القرآن تتناول الحديث عن الذكر والفكر والنهي والحجر، واللب والعلم والفقه والنظر والسير والعبرة والتذكر، حتى وردت الدعوة إلى أخذ العبرة في القرآن الكريم ما يزيد على (٣٣٢) مرة”.

ولا تجد حديثا عن لفت النظر والتفكر إلا ومعه دعوة إلى الإفادة من علم السنن، بل لا تجد آية تتحدث عن السنن الكونية من الخلق والرزق والأرض والسماء، إلا ومعها آية تتحدث عن السنن الربانية في الإنسان والعمران.

عناية القرآن بذكر مصارع الغابرين:

تكرر في القرآن الكريم الحديث عن مصارع الغابرين ممن عصوا ربهم، وكذبوا رسلهم، وتنكبوا الصراط المستقيم، فورد الحديث عن قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب، وعن فرعون وقومه، وأصحاب السبت، وأصحاب الرس، وقوم تبع، وأصحاب الفيل.

وقد قال الله تعالى (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون)

وقال تعالى في بيان أن العلو والإفساد في الأرض مؤذن بهلاك أهلها: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين)

وقال تعالى في بيان ما حل بقوم لوط ودعوة السامعين أن يعتبروا بهم ويتعظوا بما حل بساحهم: (وإن لوطا لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون) وقال بعد الحديث عن قوم لوط أيضا: (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين)

وقال تعالى بعد أن ذكر هلاك فرعون وقومه داعيا من يعي أن يعتبر ويتقي موردهم ويعتصم بالإيمان الذي يحول بينهم وبين الهلاك ومبينا الحجاب الذي حال بينهم وبين الاتعاظ والاعتبار والإيمان: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون).

وقال تعالى في دعوة المنكرين المكذبين إلى السير والنظر: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون).

وقال تعالى (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ثم بعثا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين)

وقال تعالى بعد ذكر قوم فرعون وعذابهم (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجرون إلا ما كانوا يعملون).

وقال تعالى (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود)

والناظر في الآيات السابقة يرى مدى دعوة القرآن الكريم للسير والنظر في مصارع الغابرين ومهاوى المكذبين المعاندين وبيان القرآن الكريم لأسباب هذا الهلاك.

منهاج القصص القرآني وعلاقته بإبراز سنة الله في إهلاك الأمم:

الناظر في القصص القرآني يجده يعنى بصفة خاصة ببيان سنة الله الماضية في الخلق التي لا تتخلف ولا تتحول، فنجد في نهاية كل قصة ذكر العبرة وموطن العظة، ويركز على بيان السنة التي لا تتخلف، فكما مضت على السابقين تمضي على اللاحقين، تجد ذلك في نهاية قصة قارون في تعقيب الله تعالى على القصة بكاملها إذ يقول سبحانه: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين)، وفي نهاية قصة يوسف يقول تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون).

وهكذا إذا تتبعنا القصص القرآني وجدنا كل قصة منه تنتهي بسنة من سنن الله تعالى التي لا تتخلف ولا تتأجل، يقول صاحب المنار وهو يتناول سورة الفاتحة: (ثلاثة أرباع القرآن تقريبا قصص وتوجيه للأنظار إلى الاعتبار بأحوال الأمم، في كفرهم وإيمانهم، وشقاوتهم وسعادتهم، ولا شيء يهدي الإنسان كالمثلات والوقائع. فإذا امتثلنا الأمر والإرشاد، ونظرنا في أحوال الأمم السالفة، وأسباب علمهم وجهلهم، وقوتهم وضعفهم، وعزهم وذلهم، وغير ذلك مما بعرض للأمم – كان لهذا النظر أثر في نفوسنا يحملنا على حسن الأسوة والاقتداء بأخبار تلك الأمم فيما كان سبب السعادة والتمكن الأرض، واجتناب ما كان سبب الشقاوة أو الهلاك والدمار. ومن هنا ينجلي للعاقل شأن علم التاريخ وما فيه من الفوائد والثمرات، وتأخذه الدهشة والخبرة إذا سمع أن كثيرا من رجال الدين من أمة هذا كتابها يعادون التاريخ باسم الدين ويرغبون عنه، ويقولون: إنه لا حاجة إليه ولا فائدة له. وكيف لا يدهش ويحار والقرآن ينادي بأن معرفة أحوال الأمم من أهم ما يدعو إليه هذا الدين؟ (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات).

والناظر في القصص القرآني يجد هذا الترابط البديع بين عرض القصة بأسلوب رائق فائق وإبراز سنن الله من خلالها.

من هنا لا يعني القصص القرآني بالتاريخ ولا تحديد الزمان والمكان للحدث الذي يتناوله، إلا بقدر ما يخدم الهدف الذي يريده، والغاية التي يسعى إليها (وليس القرآن تاريخا ولا قصصا وإنما هو هداية وموعظة، فلا يذكر قصة لبيان تاريخ حدوثها، ولا لأجل التفكه بها أو الإحاطة بتفصيلها، وإنما يذكر ما يذكره لأجل العبرة كما قال: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) وبيان سنن الاجتماع كما قال: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) وقال (سنت الله التي قد خلت في عباده) وغير ذلك من الآيات .

والحوادث المتقدمة منها ما هو معروف، والله تعالى يذكر من هذا وذاك ما شاء أن يذكر لأجل العبرة والموعظة، فيكتفى من القصة بموضع العبرة ومحل الفائدة، ولا يأتي بها مفصلة بجزئياتها التي لا تزيد في العبرة بل ربما تشغل عنها، فلا غرو أن يكون في هذه القصص التي يعظنا الله بها ويعلمنا سننه ما لا يعرفه الناس؛ لأنه لم يرو ولم يدون بالكتاب. وقد اهتدى بعض المؤرخين الراقين في هذه الأزمنة إلى الاقتداء بهذا، فصار أهل المنـزلة العالية منهم يذكرون من وقائع التاريخ ما يستنبطون منه الأحكام الاجتماعية وهو الأمور الكلية، ولا يحفلون بالجزئيات لما يقع فيها من الخلاف الذي يذهب بالثقة، ولما في قراءتها من الإسراف في الزمن والإضاعة للعمر بغير فائدة توازيه، وبهذه الطريقة يمكن إيداع ما عرف من تاريخ العالم في مجلد واحد يوثق به ويستفاد منه، فلا يكون عرضة للتكذيب والطعن، كما هو الشأن في المصنفات التي تستقصي الوقائع الجزئية مفصلة تفصيلاً.

إن محاولة جعل قصص القرآن ككتب التاريخ بإدخال ما يروون فيها على أنه بيان لها هي مخالفة لسنته، وصرف للقلوب عن موعظته، وإضاعة لمقصده وحكمته، فالواجب أن تفهم ما فيه، وتعمل أفكارنا في استخراج العبر منه، ونزع نفوسنا عما ذمه وقبحه، وتحملها على التحلي بما استحسنه ومدحه، وإذا ورد في كتب أهل الملل أو المؤرخين ما يخالف بعض هذه القصص، فعلينا أن نجزم بأن ما أوحاه الله إلى نبيه ونقل إلينا بالتواتر الصحيح هو الحق وخبرة هو الصادق، وما خالفه هو الباطل، وناقله مخطئ أو كاذب، فلا تعده شبهة على القرآن، ولا نكلف أنفسنا الجواب عنه، فإن حال التاريخ قبل الإسلام كانت مشتبهة الأعلام حالكة الظلام، فلا رواية يوثق بها للمعرفة التامة بسيرة رجال سندها، ولا تواتر يعتد بالأولى، وإنما انتقل العالم بعد نزول القرآن من حال إلى حال، فكان بداية تاريخ جديد للبشر، كان يجب عليهم – لو أنصفوا أن يؤرخوا به أجمعين.

أقول: إن الذي يسبق إلى الذهن من هذا القول هو أن ما كان من شئون الأمم وسير العالم بعد الإسلام لم ينطمس ولم تذهب الثقة به ولم ينقطع سند رواته كما كان قبله. وبيان ذلك بالإجمال: أن القرآن قد جاء البشر بهداية جديدة كاملة، كانوا قد استعدوا للاهتداء بها بالتدريج الذي هو سنة الله تعالى فيهم. 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى