اجتماعيةمقالاتمقالات تربوية

رسائل من الاسراء

د. حمد الفارسي

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله صلاة وسلاما متلازمين ما تعاقب الليل والنهار إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أما بعد:
يقول الله تعالى: (وَذَكِّرۡهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَّهِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، فمن رحمة الله بعباده أن جعل لهم مواسم طيبة لها نفحات مباركة تجري بها الأيام لكي يتزود منها السالكون إلى الله بما يعينهم على طريق الإسلام وشِرعة خير الأنام محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. ومن تلك الأيام المباركات والليالي المنيرات، ليلة الإسراء والمعراج. ومن المعلوم أن العلماء قد اختلفوا في تحديدها على أقوال. ولكن العجيب أنه من كان له ورد من القرآن فلن يعني له هذا الخلاف شيئا لأن قارئ القرآن حتما سيقرأ قول الله تعالى مع كل ختمة لكتاب الله: (سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلاً مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ). ولعل هذا لعظمة هذه الليلة المباركة ولحاجة العباد إلى أن يتذكروها ويتزودوا من دروسها؛ فكان القرآن الكريم هو من يُذكرنا بها وليست الأيام وتاريخها فقط.
إن حال المتمسك بدينه في هذا الزمان كحال القابض على الجمر، فإنه أحوج ما يكون إلى أمرين: الأول هو ثبات القلب وسكينته، والثاني هو الأُنس بالله. ولقد جاءت حادثة الإسراء والمعراج بلطائف عدة وبرسائل عظيمة ومَعِينٌ من الزاد لا ينفد، وكان من هذه اللطائف تثبيت قلب المؤمن والتسرية عليه بسبب ما يجده من هم وحزن ووحشة.
لقد ضاقت الدنيا على قلب حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم بعد عشرة أعوام من المكابدة والصبر على الدعوة إلى هذا الدين، فلقد لَقِي صلى الله عليه وسلم صنوفا من الأذى من عشيرته لا حصر لها وأُذِي في نفسه وفي أهل بيته وفي أصحابه وفقد السند والظهر المناصر له فغابت عنه أحب زوجة إليه – خديجة – رضي الله عنها، وغاب عنه عمه، وهجرته عشيرته، وأُوذِي في الطائف. لقد أطبقت الدنيا عليه صلى الله عليه وسلم فأصبح في وحشة، وفي غربة بين عشيرته. كان يخشى على أمر هذا الدين، ويخاف على حال أصحابه، ولكن الله العليم اللطيف الحليم الجبار يرى عبده ويعلم بحال قلبه فلم يتركه لظلم أهل الأرض ولم يكله إلى قسوة، وجفاء العباد، فأخذه إليه حتى يُدخل على قلبه السكينة ويجبر بخاطره ويثبت له قلبه ويريه أن له ربا رحيما ودودا يحبه، ولن يتركه وحيدا شريدا بين الناس.
فلنتدبر إِكرام الله لعبده وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، لقد أرسل الله له رسولا ليأخذه إلى لقاء الله، ذلك هو الأمين جبريل عليه السلام، وأكرمه بركوب دابة خاصة تقديرا لمنزلته ولشرف مكانته، وأسرى به إلى المسجد الذي يحب أن يراه، ولم يكن رأه من قبل -ذلك هو المسجد الأقصى- فجمع الله له في ليلة واحدة أعظم مسجدين وضعهما الله لعبادته في الأرض، وكان هناك إخوته الأنبياء يسلمون عليه ويُدخِلون على قلبه الأنس فهم إخوته الذين يشاركونه مكابدة الدعوات وتبليغ الرسالات. وزيادة في بيان منزلته وتكريما له يتقدمهم ويكون إماما لهم. ما أعظم لطف الله وما أكبر رحمته بنبيه.
ويرتقي بعد ذلك بصحبة الأمين جبريل في ملكوت الله عروجا في السماوات وتسلم عليه الملائكة والأنبياء ويقولون له مرحبا بالنبي الصالح وبالأخ الصالح، ويرقى ويرتقي إلى أن نال منزلة ما نالها أحد من قبله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وكلمه الله بلا ترجمان، فصلوات ربي وسلامه عليك يا حبيب الله يا رسول الله.
هي رسالة جلية، واضحة للمسلم العابد المكابد لدعوة الله والمتمسك بدينه مفادها: لا تحزن ولا تكن في وحشة ولا في غربة فإن لك ربا رحيما سميعا وبصيرا، ويعلم ما في قلبك وهو مُطلع عليك في جميع أحوالك فلا تحزن. فإذا نزل بك هم وأطبقت عليك الدنيا وظلمك الناس فعليك أن تسري بقلبك وبجسدك إلى بيت من بيوت الله، وصلِّ له واطرح قلبك بين يديه وتحدث معه بما تجده، وإذا أردت أن يحدثك الله فاقرأ القرآن وأطلق لروحك العنان لتحلق في ملكوت الرحمن وتعرج إليه وتتمسك بحبله المتين؛ فعندها يثبت القلب ويذهب الحزن وتتزود الروح بزاد يكون عونا لها على الطريق. واعلم أنك أعز وأكرم لأنك متصل بالله فإذا شعرت بالوحشة والغربة بين الناس وكثر عليك ظلمهم فاعلم أن الله يريد لك الأُنس به.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى