مقالاتمقالات تربوية

رمضان شهر تنزيل الكتاب

 

رمضان شهر تنزيل الكتاب.. عظمة القرآن الكريم (2)

 

بقلم: د. علي الصلابي

تكلمنا في المقال السابق عن بعض وجوه عظمة القرآن الكريم، وذكرنا منها: ثناء الله على كتابه، وعظمة منزّله، وعظمة جبريل عليه السلام، ونتابع في هذا المقال باقي وجوه العظمة:

القرآن مستقيم ليس فيه عوج:

قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا *قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَناً *} [الكهف: 1 ـ 2].

ونفي العوج عن القرآن له عدة أوجه، منها:

الأول: نفي التناقض عن آياته، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا *} [النساء: 82].

الثاني: إن كل ما ذكر الله تعالى في القرآن من التوحيد والنبوة والأحكام والتكاليف، وهو حق وصدق، ولا خلل في شيء منه البتة.

وأخبر تعالى كذلك عن القرآن أنّه ليس فيه تضاد، ولا اختلاف، ولا عيب من العيوب التي في كلام البشر، فقال تعالى: {قرآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28]، أي: ليس فيه خلل ولا نقص بوجه من الوجوه، لا في ألفاظه، ولا في معانيه، وهذا يستلزمُ كمال اعتداله واستقامته.

فقد وصف الله تعالى كتابه العزيز بأوصاف عظيمة تدلُّ على أنه كامل من جميع الوجوه، وعظيم بكل ما تعبر عنه الكلمات، منها:

 

 

 

نفيُ العوج عنه: وهذا يقتضي أنّه ليس في أخباره كذب، ولا في أوامره ونواهيه ظلمٌ ولا عبثٌ.

إثبات أنه مستقيم مقيم: فالقرآن العظيم مستقيم في ذاته، مقيم للنفوس على جادّة الصوّاب، وإثبات الاستقامة يقتضي أنه لا يُخبرُ ولا يأمر إلا بأجلّ الأخبار، وهي الأخبار التي تملأ القلوب معرفةً، وإيماناً، وعقلاً، كالإخبار بأسماء الله وصفاته وأفعاله، والإخبار بالغيوب المتقدّمة والمتأخرة، وأن أوامره ونواهيه،

تزكي النفوسَ وتطهرها وتنمّيها وتكمّلها لاشتمالها على كمال العدل، والقسط، والإخلاص، والعبودية لله رب العالمين، وحده لا شريك له، فحقيق بكتاب موصوف بما ذُكر، أن يَحمد الله تعالى نفسه على إنزاله، وينفي العوج عن القرآن الكريم، وإثبات استقامته فتتجلّى عظمته، وعلوّ شأنه، ومنزلته عند الله. (عظمة القران الكريم ص 70)

خشوع الجبال وتصدُّعها:

قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقرآن عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} الحشر: 21] أي: لاتّعظ الجبلُ، وتصدّعَ صخرُه، من شدّة تأثره من خشية الله، ففي هذا: بيانُ حقيقة تأثير القرآن وفعاليته في المخلوقات، ولو كانت جبلاً أشمَّ، وحجراً أصمّ، وضُرب التصدّعُ مثلاً لشدة الانفعال والتأثر؛ لأن منتهى تأثر الأجسام الصلبة أن تنشق وتتصدّع، ولا يحصل ذلك بسهولة.

والخشوعُ: هو التّطأطؤ والرّكوع، أي: لرأيته ينزل أعلاه إلى الأرض.

والتصدّع: التشقق، أي: لتزلزل وتشقق من خوف الله تعالى.

 

ولا شك أنَّ هذا تعظيمٌ لشأن القرآن، وتمثيلٌ لعلوّ قدره، وشدّة تأثيره في النفوس، لما فيه من بالغِ المواعظ والزواجر، ولما اشتمل عليه من الوعد الحقّ، والوعيد الأكيد، فإذا كان الجبلُ في غلظته وقساوته لو فهم هذا

القرآن كما فهمتموه ـ لخشع وتصدّع من خوف الله تعالى، فكيف يليقُ بكم أيُّها البشر ألاّ تلينَ قلوبكم وتخشعَ وتتصدّعَ من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره، وتدبّرتم كتابه، والمقصود من إيراد الآية: إبرازُ عظمةِ القرآن الكريم، والحثُّ على تأمل مواعظه الجليلة، إذ لا عذر لأحد في ذلك، وأداء حق الله تعالى في تعظيم كتابه، وتوبيخ من لا يحترمُ هذا القرآن العظيم، وفيه كذلك تمثيل وتخييل لعلوِّ شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ.

  1. انقياد الجمادات لعظمة القرآن:

قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قرآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31].

فهذا شرطٌ جوابُه محذوف، والمرادُ منه: تعظيمُ شأن القرآن العظيم.

والمعنى: ولو أنَّ قرآناً سُيرت به الجبال عن مقارّها، وزُعزعت عن مضاجعها، أو قُطّعت به الأرض حتى تتصدّع وتتزايل قِطَعاً، أو كُلم به الموتى، فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن، لكونه غاية في التذكير، ونهاية في التخويف.

والمقصود: بيانُ عظم شأن القرآن العظيم، وفساد رأي الكفرة، حيث لم يقدّروا قدره العلي، ولم يعدّوه من قبيل الآيات فاقترحوا غيره، مما أُوتي موسى وعيسى عليهما السلام . فالمعنى: أي: بإنزاله أو بتلاوته {وَلَوْ أَنَّ قرآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ}، وزعزعت عن مقارها كما فُعل ذلك بالطور لموسى عليه الصلاة والسلام أي: شققت وجُعِلت أنهاراً {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ}، كما فعل بالحجر حين ضربه موسى عليه السلام بعصاه، أو جعلت قِطَعاً متصدّعة أي: بعد {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أحييت بقراءته عليها، كما أُحييت لعيسى عليه

 

السلام، لكان  هذا القرآن، لكونه الغاية القصوى في الانطواء على عجائب آثار قدرة الله تعالى وهيبته.

  1. تحدي الإنس والجن بالقرآن:

من مظاهر عظمة القرآن وعلوِّ شأنه، أنّ الله تعالى تحدّى الإنسَ والجنَّ أن يأتوا بمثله، أو بعشرِ سورٍ من مثله أو بسورةٍ مثله. (عظمة القران الكريم ص 73)

قال تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *} [الإسراء 88].

وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *} [هود: 13 ـ 14].

ومع ذلك كله، ما ثابوا إلى رشدهم، وما وجدوا ما يتكلّمون به، فعادوا لما نهوا عنه، وقالوا: «اختلقه محمد عمداً»، فاستدرجهم الله تعالى من حيث لا يعلمون، ووصل بهم إلى غايةِ التّبكيت والخذلان، وتحدّاهم أن يأتوا بسورةٍ مثلَ القرآن فعجزوا.

قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [يونس: 38].

ولما بُهِتَ الذين كفروا؛ ولم يستسلموا؛ صاروا كالذي يتخبّطه الشيطانُ من المسِّ، مرةً يقولون استهزاء: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ *} [الأنفال: 31] وأخرى يقولون عابثين: {ائْتِ بِقرآن غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15].

وصار أمرُهم على ما يقول الله العظيم: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ *} [يونس: 39].

 

فهذا القرآن العظيمُ ليس ألفاظاً وعباراتٍ يحاول الإنس والجن أن يحاكوها، كلا وربّي، إنّه كلام الله تعالى، الذي تحدّى به الخلق كلهم، فقال عزّ من قائل حكيم: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *} [الإسراء: 88].

فهذا تنويهُ بشرفِ القرآن وعظمتِه، وهذه الآية ونحوها تُسمّى آيات التحدي، وهو تعجيزُ الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن الكريم، أو سورة منه.

وكيف يقدرُ المخلوقُ من ترابٍ أن يكون كلامُه ككلام ربّ العالمين؟! أم كيف يقدِرُ الناقصُ الفقيرُ من كل الوجوه أن يأتيَ بكلام ككلام الكامل، الذي له الكمال المطلق، والغنى الواسع من جميع الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان؛ ولا في قدرة الإنسان، وكل مَنْ له أدنى ذوق ومعرفة بأنواع الكلام، إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء؛ ظهرَ له الفرق العظيم.

فعظمةُ القرآن، وعلوُّ شأنه، لا تجعل للخَلْق من إنسٍ وجِنٍّ مطمعاً في الإتيان بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. (عظمة القران الكريم ص 77)

 

المراجع:

عظمة القرآن الكريم، محمود الدوسري، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، 2014م.

أركان الإيمان: الإيمان بالقرآن الكريم، علي محمد الصلابي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى