مقالاتمقالات الرأيمقالات فكرية

سبل مكافحة الاستبداد

سبل مكافحة الاستبداد

بقلم: د. محمد الصغير

 

اختلفت ألفاظ الأوائل في التعبير عن معنى أهل الحل والعقد، فقد ذكر الإمام النووي؛ أنهم العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم. وقال الإمام الجويني: إن عقد الإمامة هو اختيار أهل الحل والعقد… وهم الأفاضل المستقلون الذين حنكتهم التجارب وهذبتهم المذاهب وعرفوا الصفات المرعية فيمن يناط به أمر الرعية.

ويعد أهل الحل والعقد أهم الضمانات الحاجزة عن استبداد الحكام، فهم مَن عقدوا له البيعة والولاية، وهم أهل الشورى وأهم مراكز صُنع القرار، وإلى جوار هذه النخبة يأتي دور آحاد الأمة في بذل النصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل الله ذلك من أسباب خيريتها وعدالتها:

﴿كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَـٰبِ لَكَانَ خَیۡرࣰا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ﴾ [آل عمران: ١١٠]

وكان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلون ذلك ويؤصلون له، ذكر الإمام البخاري في التاريخ الكبير عن محمد بن النعمان بن بشير، أن أباه أخبره، أن عمر قال يوماً في مجلس وحوله المهاجرون والأنصار: “أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمر، ما كنتم فاعلين”؟ فسكتوا، فعاد مرتين، أو ثلاثاً. قال بشير بن سعد: “لو فعلتَ قومناك تقويم القدح”. قال عمر: “أنتم إذن أنتم”.

وروى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثًا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف. قال أبو سعيد: فلم يزَل الناس على ذلك حتى خرجتُ مع مروان وهو أمير المدينة في أضحًى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله! فقال: أبا سعيد.. قد ذهب ما تعلم! فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم. فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة.

وفي صحيح مسلم من طريق طارق بن شهاب قال: أول مَن بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة.. مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة! فقال: قد تُرك ما هنالِك. فقال أبوسعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله ﷺ يقول: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”. وعند ابن حبان: فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، ومدّ بها صوته.

وفي هذا أبلغ الرد على مرجئة كل عصر، الذين يقولون لا يُنصح الحاكم إذا بدل أو استبد، وإن كانت ولا بد ففي ساعة السر!

والفارق بين التصور الإسلامي لهذه القضية وتصور الجامية والمدخلية، أن السلف الأوائل ومَن تبعهم بإحسان يرون الحاكم أجيراً يقوم على حوائج الناس، أما الطوائف المنحرفة فتخلع عليه هالات التقديس، وترفعهم أحياناً إلى منزلة مَن لا يُسأل عما يفعل!

دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان، فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقالوا: قل السلام عليك أيها الأمير! فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقالوا: قل أيها الأمير. فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقالوا: قل الأمير. فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول. فقال: إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها، فإن أنت هَنَأْتَ جَرْباها وداويت مرضاها وحبستَ أولاها على أخراها وفّاك سيدُها أجرك. وإن أنت لم تَهْنَأْ جرباها ولم تداوِ مرضاها ولم تحبِسْ أُولاها على أُخراها عاقبك سيدها1.

وعن أبي مريم الأزدي رضي الله عنه، أنه قال لمعاوية رضي الله عنه: سمعت رسول الله ﷺ يقول: “من ولّاه الله شيئًا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخَلّتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة”. فجعل معاوية رجلًا على حوائج الناس2.

ومع ظهور التغيير في الأجيال اللاحقة ظهر من يأنف من النصيحة، ومن يرى نفسه فوق الأمر والنهي، ولكن كان السلف يقابلون ذلك بمنتهى الحزم، دخل عائذ بن عمرو رضي الله عنه على عبيد الله بن زياد -وكان جباراً عنيداً- فقال: أي بُني، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن شر الرِعاء الحُطَمة» فإياك أن تكون منهم! فقال له: اجلس.. فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد ﷺ. فقال: وهل كانت لهم نخالة؟! إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم”3.

ويعدّ الإسلام الصدع بالحق أمام حكام الجور، والنصيحة في بلاط السلاطين المستبدين.. من أعلى درجات الجهاد في سبيل الله، ومن لقي الله عز وجل على ذلك فهو بأعلى درجات الفضل والشهادة، روى جابر بن عبدالله أن رسول الله ﷺ قال: “سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”4.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: “أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر”5.

وبهذه الضمانات وغيرها وضع الإسلام الأسس التي تمنع تغول الحاكم على الرعية واستبداد الراعي بما تحت يده، وبذلك يكون الحاكم أول مستفيد من ذلك؛ لأنه سيجد مَن يأخذ بيده ويذكّره، أو من يأخذ على يده ويزجره، وبذلك يسلم المجتمع المسلم من عاقبة ترك النصح والغفلة عن الأمر والنهي؛ كما في رواية الترمذي عن أبي بكر الصديق قال: “يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ عَلَیۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا یَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَیۡتُمۡۚ﴾ [المائدة: ١٠٥] وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: “إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. ابن تيمية: السياسة الشرعية، باب أداء الأمانات.

2. رواه أبو داود والترمذي.

3. رواه مسلم.

4. حديث صحيح، أخرجه ابن حبان والحاكم.

5. أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى