سمات الشخصية الليبية وآفاق التنمية المستقبلية: مقاربة في علم النفس الاجتماعي.

د. علي جمعة العبيدي
المقدمة
تُشّكل الشخصية الليبية بُنية نفسية-اجتماعية ناتجة عن تفاعل معقد بين عوامل تاريخية، سياسية، واقتصادية، إضافة إلى البنية القبلية التي ما زالت تلعب دوراً محورياً في تشكيل الهوية والسلوك. ومن منظور علم النفس الاجتماعي، فإن فهم هذه الشخصية يتطلب تحليل آليات التفاعل بين الفرد والجماعة، وأنماط الإدراك الجمعي، وتأثير الخبرات التاريخية في تكوين ما يمكن تسميته بـ”البنية الذهنية الجمعية” التي تحدد ملامح التكيف أو العجز أمام تحديات التنمية.
إن تحليل الشخصية في ضوء هذا الإطار يساعد على إبراز التناقضات البنيوية التي تعيق التحول نحو الاستقرار، ويؤسس لمداخل إصلاحية تسعى لتوجيه الطاقة الاجتماعية نحو تنمية مستدامة.
⸻
أولاً: السمات النفسية والاجتماعية
تؤكد نظريات الإحباط-العدوان والتعلّم الاجتماعي أن غياب الاستقرار السياسي يخلق أنماطاً دفاعية تتجلى في العدوانية والشك المتبادل. فالتجارب السلبية المتكررة تولد ما يسميه علماء النفس الاجتماعي بـ”التوقعات الاجتماعية المقيدة بالخوف”، مما يعزز ضعف الثقة بالنفس وفقدان الثقة بالآخر.
كما أن النزعة نحو النرجسية والأنانية هي نتاج أنظمة اجتماعية تعلي من شأن السلطة والهيمنة، وهو ما ينسجم مع تحليل وناس لثقافة “الغلبة” التي تعيد إنتاج سلوكيات السيطرة والزعامة  .
⸻
ثانياً: السمات العقلية والفكرية
من منظور علم النفس المعرفي الاجتماعي، يمكن رصد هيمنة الشائعة كآلية لنقل المعلومة في المجتمع الليبي. هذا الميل يرتبط بضعف منظومات التعليم في ترسيخ مهارات التفكير النقدي، وبسطوة القوالب الاجتماعية التقليدية.
إن هذا النمط يعزز ما يسميه فيستنغر بـ”التنافر المعرفي”، حيث يعيش الفرد بين قناعات داخلية متناقضة وسلوكيات اجتماعية مفروضة، ما ينتج غياباً للحوار البنّاء وتكريساً للنمطية الفكرية.
⸻
ثالثاً: السمات المهنية
في المجال الوظيفي، تكشف الممارسات القائمة على المحسوبية والزبونية الاجتماعية عن هيمنة “السلطة غير الرسمية”، وهو ما يؤدي إلى ضعف الدافعية الداخلية وانخفاض الإنتاجية.
ويؤكد التحليل الاجتماعي أن هذه الممارسات تعيق نشوء ثقافة مهنية قائمة على الكفاءة، وتكرّس اعتماد الأفراد على النفوذ القبلي والشبكات الشخصية، مما يعطل مسار التنمية المؤسسية .
⸻
رابعاً: البنية الأسرية
تعكس الأسرة الليبية صورة مصغرة عن التراتبية الاجتماعية الأشمل. فسيادة السلطة الأبوية وتراجع دور المرأة يشكلان امتداداً لثقافة اجتماعية تقوم على إعادة إنتاج أدوار جامدة.
من منظور النظرية الدورانية في علم النفس الاجتماعي، فإن هذه الأدوار غير المرنة تعيق تكوين هوية أسرية داعمة للنمو الفردي، وتكرس التبعية بدل المشاركة، ما يؤدي إلى هشاشة في التنشئة الاجتماعية وإلى بروز صراعات خفية بين الأجيال.
⸻
استراتيجيات التنمية النفسية والاجتماعية
لإعادة توجيه الشخصية الليبية نحو أفق تنموي أكثر إيجابية، يمكن اقتراح التدخلات التالية:
1. تعزيز ثقافة الحوار: عبر تدريب على مهارات التواصل الفعّال وتوسيع مساحات النقاش الحر.
2. تنمية التفكير النقدي والإبداع: من خلال التعليم التفاعلي وتشجيع المبادرات الريادية.
3. الاعتراف بالتنوع الثقافي: بوصفه قيمة اجتماعية داعمة للتعايش، بعيداً عن عقلية “نحن ضدهم” التي تغذي الانقسام .
4. إصلاح المنظومة المهنية: بتفعيل مبدأ الاستحقاق وربط الامتيازات بالكفاءة لا بالانتماء.
5. إعادة بناء الأسرة: بتمكين المرأة وإشراك الأبناء في القرارات الأسرية، بما يعزز الهوية المشتركة.
6. ترسيخ الوعي السياسي: عبر التربية المدنية وتوسيع المشاركة الشعبية على أساس المواطنة لا الولاءات القبلية.
⸻
الخاتمة
إن الشخصية الليبية ليست بُنية جامدة، بل كيان ديناميكي يمكن إعادة تشكيله من خلال تدخلات اجتماعية ونفسية تراكمية. ومن منظور علم النفس الاجتماعي، فإن الإصلاح لا يتحقق إلا بإعادة بناء الثقة الاجتماعية، وتحفيز الإبداع، وتثبيت قيم الحوار والمواطنة.
وعليه، فإن الاستثمار في الإنسان الليبي عبر التعليم، الإصلاح الأسري، وتطوير البنى المؤسسية يمثل المدخل الأهم لتجاوز إرث التبعية والهيمنة، وبناء مستقبل أكثر استقراراً وعدلاً وازدهاراً .