مقالاتمقالات تربويةمقالات فكرية

سنة الله في إمهال الظالمين

د. جمال نصار 

يظن الظالمون ومن يسير في فلكهم من الجوقة الإعلامية والدهماء، أن إمهال الله لهم، وتركهم يعيثون في الأرض فسادًا وظلمًا، دليل على صحة موقفهم، وأن من يقف في طريقهم لا بد من سحقه، لأنه يقف ضد الدولة، أو يريد التخريب، وإشاعة الإرهاب والفوضى، كما يدعون!

هذا الوهم المستحكم الذي يذهب إليه هؤلاء الظلمة، ومن يعاونهم، قد يزيدهم غرورًا وتكبرًا بالتمادي في الظلم، ومحاربة المصلحين، والتضييق عليهم، وتشويههم بتلفيق التهم لهم، مع قلب الحقائق والترويج لها من خلال ألسنة باعت نفسها للشيطان. وقد نسى هؤلاء أو تناسوا قول النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم: (إنّ اللهَ يُمهِلُ الظّالمَ حتّى إذا أخَذه لم ينفلِتْه)، ثمَّ تلا: (وكَذَلِكَ أخْذُ رَبِّكَ إذا أخَذَ القُرى وهِيَ ظالِمَةٌ إنَّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَدِيدٌ) (هود: 102).

فعاقبة الظالم وخيمة وشديدة السواد، عليه وعلى كل من عاونه، كما قال تعالى: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (الأعراف: 41).

فالله، تبارك وتعالى، يمهل الظالم ليترقى في الظلم، ويرتفع فيه حتى يبلغ مبلغًا كبيرًا من الظلم، يراه الناس ويسمعوا به في مشارق الأرض ومغاربها، فحينها يأمر الله به أن يُوضع ويهوي في أسفل سافلين، فكلما ارتفع الظالم وعلا كان أبين لسقوطه والاعتبار به.

يقول الشاعر:

أيحسب الظالم في ظلمه            أهمله القادر أم أمهلا

ما أُهملوا بل لهم موعد             لن يجدوا من دونه موئلا

نماذج من ظلم الظالمين وعاقبتهم الوخيمة

من أبرز النماذج على الظلم الصارخ، والتجبر في الأرض فرعون مصر الذي وصل به الأمر إلى ادعاء الألوهية والاستخفاف بعقول الناس، والإعراض عن كل الآيات التي جاءته من الله حتى أهلكه الله وقومه، (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ) (القصص: 38).

وأمرُ فرعون مثال واضح لكل طاغية يتجاوز حدوده في ظلم للناس، والتجبّر عليهم، والاستبداد في حكمهم، والتضييق على أرزاقهم، والنيل منهم، والاستخفاف بعقولهم وإرادتهم ومصالحهم، وكلما رأى منهم السكوت على ظلمه، والخضوع لبغيه وعدوانه ازداد تجبرًا وصلفًا وتضييقًا، حتى يصل به الأمر إلى أنه الحاكم الناهي، الذي يعرف كل شيء، ويستطيع مواجهة كل المشاكل بطريقته وأسلوبه، مع ادعائه الإرادة المطلقة في مصائر الناس.

وعلى الرغم من استفحال ظلم فرعون، وتجبره على قومه، إلا أن مصيره كان الإهلاك والغرق، وأراد الله أن يكون فرعون مصر عبرة لغيره على مر العصور، فقذف به على الشاطئ وتمّ تحنيطه، ليراه العالمين، ويكون تذكّرة لمصير الظالمين، الذين يتألهون على الناس.

وكذلك نموذج الحجاج بن يوسف الثقفي المتوفى (95هـ) من الشهرة بمكان في الظلم والقتل الذي استشرى في عصره، وأصبح ذكر اسمه يستدعي في الحال معاني الظلم والاستبداد، على الرغم من حديث بعض المؤرخين عن إنجازاته في الفتوحات، وصرامته في مواجهة أعدائه.

فقد عُرف عنه حبه لسفك الدماء، ولم يكن يكترث بقطع رقبة إنسان بمجرد الشك فيه، حتى أن عُمر بن عبد العزيز، قبل توليه الخلافة، كان يتجنب الاجتماع معه في مكان واحد بغضًا لظلمه. وصح أنه قال عنه “لو جاءت كل أمة بأشرارها وجئنا بالحجاج لكفانا”.

ومن أبرز ضحايا الحجاج التابعي الجليل سعيد بن جبير المتوفى (95هـ)، فعندما أدرك الحجاج بمكانه وتأثيره في الناس، أمر أن يُساق إليه مقيدًا، وادَّعى أنه عدو لله ودينه، فأمر بذبحه، وقبل أن يتم الحكم عليه دارت بينهما محاورة طويلة تباين المؤرخون في نقلها، وانتهت بقول الحجاج غاضبًا: “أما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحدًا قبلك ولا أقتلها أحدًا بعدك”، فقال سعيد: “اللهم لا تحل له دمي ولا تمهله من بعدي”.

ثم قال: “اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي”، وقد استجاب الله دعاءه فقد التبس الحجاج في عقله ودبّ المرض في جسده وجعل ينادي: “مالي ولسعيد”! ولم يزل الحجاج بعد قتله سعيدًا فزعًا مرعوبًا حتى مُنع من النوم، وكان كلما نام رآه آخذًا بمجامع ثوبه يقول: “يا عدو الله فيم قتلتني؟ فيستيقظ مذعورًا ويقول مالي ولابن جبير؟ ولم يزل متلبسًا حتى هلك” في نفس العام الذي قتل فيه سعيد بن جبير.

ولذا على الظالمين أن يفيقوا من غيهم ويتوقفوا عن ظلمهم، لأن العاقبة وخيمة في الدنيا قبل الآخرة، مصداقًا لقول الشاعر:

فلا تظلمنَّ إذا ما كُنْتَ مُقتِدرًا  فالظُّلْمُ آخِرهُ يُفضِي إلى النَّدمِ

تنامُ عيناكَ والمظلومُ مُنتبِهٌ       يدعُو عليكَ وعينُ اللهِ لم تنمِ

والخلاصة:

أن الصراع بين الحق والباطل بدأ منذ أن خلق الله الخليقة، وسيستمر إلى يوم الدين بالتدافع بين أهل الحق، وأنصار الباطل، ومؤيديه، ولكن هيهات أن يستمر هذا الظلم على الدوام، طالما أن هناك حرص من المؤمنين بالحق على دفعه بكل الوسائل الممكنة، ولذلك قال الإمام علي، كرم الله وجهه: “إذا رأيت الظالم مستمرًا في ظلمه فاعرف أن نهايته محتومة، وإذا رأيت المظلوم مستمرًا في مقاومته فاعرف أن انتصاره محتوم”.

وفي النهاية لن تدوم لدولة الظلم قائمة مهما طال وقتها، فلا يغر الظالم إمهال الله له، فالملك بيده يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، وسوف تتنزل على الظالمين نقمة الله ومن ناصرهم، حتى ولو بعد حين.

فإن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى