مقالاتمقالات تربوية

سورة الأنفال….قدسية الآيات

 

أ. فرحات الهوني

إن من أهم خصائص القرآن الكريم أنه كتاب شامل لكل زمان ومكان ومجال، ولا يمكن القول إنه يصلح لحقبة زمنية دون غيرها؛ وهذه عقيدة نؤمن بها.
فلو تأمّلنا في سورة الأنفال مثلاً التي تمثل بيانًا لأحداث غزوة بدر التي أعز الله بها المسلمين بالنصر على مشركي مكة، تجد فيها معاني تربوية توجه الأمة في حالة الحرب والسلم وكيفية التعاطي مع الأحداث وخاصة مع أعدائهم.
إن سورة الأنفال لا يمكن دراستها من فراغ، بل لابد من الوقوف على العبرة من أحداثها وتوجيهاتها الربانية، وكيف أن هذه السورة تعرض لنا واقع المسلمين الآن مع أعدائهم، وخاصة ونحن في صراع في قضيتنا الأولى، وهي قضية فلسطين مع اليهود ومن يقف خلفهم حتى من بني جلدتنا.
إن سورة الأنفال استنفار للأمة في كل زمان متى حاول أعدائها التربص بها، وإعداد العدة لكل من تسول له نفسه استفزازها.
بينت السورة المنهج التربوي عند اختلاف الصحابة بعد المعركة في تقسيم الغنائم، وأن الغنائم ليست هي الهدف من المعركة؛ لكن الهدف هو أن يحق الحق ويبطل الباطل.
ولهذا وقف الله تقسيم الغنائم عندما قال سبحانه وتعالى: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ “، وبين لهم أن الله سبحانه وتعالى هو من قاد المعركة، “وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ”، وبعد أربعين آية من الدرس التربوي في التعاطي مع الأحداث أجابهم عن سؤالهم بقوله سبحانه: “وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ”
ونلاحظ من خلال سرد أحداث المعركة منذ بداية الخروج لها “كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ” أن الله سبحانه وتعالى أدارها ووضع تدابيرها مثل قوله سبحانه وتعالى:

1. “وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ”
2. “إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ”
3. “وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ”
4. “إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ”
5. “إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ”
6. “فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى”
7. “ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ”
من هنا نجد أن أي نصر يتحصل عليه المسلم إنما هو بتدبير الله وتهيئة الأسباب لنيله فلا يغتر المسلم ويظن أنه أتاه على علم عنده، فليس له إلا أن يأخذ بالأسباب الظاهرة، ثم تكون النتائج على الله.
بيّن الله سبحانه وتعالى عوامل النصر والهزيمة في مواجهة الأعداء وهذه قاعدة مهمة لجند الله في معاركهم مع الباطل في كل زمان ومكان، يقول تعالى عن عوامل النصر: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ”
ثم بيّن سبحانه عوامل الهزيمة التي نعيشها الآن ونحن في مواجهة أهل الباطل: “وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ”.
وهذا واقع نعيشه، غفلنا عن عوامل النصر، واستغرقنا في خلافتنا وتنازعنا ووصلنا إلى التفرقة المذمومة؛ حتى فشلنا في كل شيء وذهبت ريحنا، ونعيش حالة من الغثائية حتى قُذف في قلوبنا مهابة أعدائنا، والله منذ بداية السورة قال لنا: “فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ”
إن التنازع سبب الفشل وضياع الدولة؛ ولهذا وجب التعاون والتوحد والنظام، يقول الدكتور مصطفى زيد:
(إذا تنازعَتِ الأمة بسبب السيادة والمُلك، أو الدِّين والشريعة، أو انغمسَتْ في الشهوات والملاذِّ، فلم تأمر بمعروف وتنهَ عن منكر، حقَّ عليها كلِّها – لا على مرتكبي المنكر وحدَهم – عقابُ الله في الدنيا، فاختلَّ أمرها اختلالًا قد ينتهي بها إلى فَقْد الاستقلال، أو إلى الزوال).
ومِن هنا كانت أهمية وحدةِ الفكر لجمع الكلمة ووحدة الصف.
كذلك نجد في ثنايا سرد أحداث هذه الغزوة تكررت النداءات الإلهية لعباد الله المؤمنين بهذه الصفة الرفيعة ؛ صفة الإيمان: يأيها الذين آمنوا.. لتذكيرهم بأن هذه التكاليف والتوجيهات.. من مقتضيات الإيمان الذي وصفوا به، وأن النصر الذي أحرزوه إنما كان بسبب تحليهم بالإيمان ومقتضياته لا بكثرة العدد والعدة..
كذلك تحدثت السورة عن إعداد القوة “وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ” وقد جاء ذكر القوة نكرة لشمل أي قوة سواء عسكرية أو علمية أو تقنية أو اقتصادية أو غيرها من عوامل تقدم الأمة لتكون في صدارة الأمم.
وباعتبار أن السورة بيان لمعركة فقد تحدثت عن جميع حثياتها مثل: التولي يوم الزحف وطاعة الله ورسوله والاستجابة لدعوتهم، وأن نبتعد عن فتنة التقاعس والخذلان، كذلك فتنة الأموال والأولاد، وما لها من آثر سلبي في المسلم، وما يقوله المنافقون والذين في قلوبهم مرض من تثبيط للهمة ، وهلاك الأمم السابقة، والعهود ونكثها، ومتى يكون الجنوح للسلم، ومعاملة الأسرى.
وقي خاتمة السورة الكريمة بيان أن الولاية بين المؤمنين مهما اختلفت أجناسهم وألوانهم وتباعدت ديارهم.. فهم أمة واحدة وعليهم نصر الذين ستنصرونهم في الدين، كما أن الكفر ملة واحدة، وأنه لا ولاية بين المؤمنين والكافرين، وهذا ما يجب أن يعيه المؤمنون في كل زمان ومكان.
يقول الشاعر يوسف العظم:
يا سورة الأنفال من لي بها * قدسية الآيات تستنفر
إن سورة الأنفال ترسم لنا تلك الشخصية القرآنية العظيمة التي أدرك صاحبها غايته جيدا …فكان بين يدي ربه خاشعا متذللا ..باكيا تائبا …يسمع آيات القرآن فتغيره وتربيه.. يسرع إلى صلاته ويستمتع بمناجاة ربه.. يكثر من الصدقات ويضع ماله ووقته ونفسه كلها وقفًا لله عزوجل …
وكان بين يدي إخوانه رحيما بهم ..ناصرا لهم ..آويا لضعيفهم ..سندا لهم …مؤثرا لهم على نفسه.. ذليلا بين أيديهم…
وكان وقت نصرة الحق والدين مجاهدا ..متقدما …
ثم هو وقت توزيع الغنائم الأنفال …غائبا …لا أنفال له ..فليست الدنيا غايته …له درجات في جنات عدن ومغفرة ورزق كريم …بغير هذا الكسب لا يرضى…. ولغير هذا الفوز لا يهتم
ومن لطائف السورة أن في بدايتها تصف المؤمنون حقا. وذكرت أن لهم مغفرة ورزق كريم، وانتهت السورة أيضا بهذه الآيات التي تصف المؤمنون حقا أيضا وتؤكد أن لهم مغفرة ورزق كريم.
تؤكد سورة الأنفال لنا ..أن المؤمنون حقا …لهم مغفرة ورزق كريم ..تلك غايتهم ..هذا فوزهم …المؤمنون حقا ..لا أنفال تشغلهم ..ولا الأنفال هي ما تهمهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى