شرح الإمام التتائي.. بين الدار والخزانة

أ.هشام السنوسي
“تنوير المقالة في حل ألفاظ الرسالة” هو من الشروح النفيسة على كتاب “الرسالة لابن أبي زيد القيرواني”، ويتميز هذا الشرح تبعاً لأصله بمعالجة موضوعات مهمة، وأبواب فقهية متنوعة ومفيدة، وفوائد ونكات قلَّ أن تجدها في غيره، ويتميز أيضاً ببيان مواطن الاتفاق والافتراق مع مشهور المذهب، ووجوه إفادات النص من داخل المذهب وخارجه، والدليل من اللغة والبيان والأصول .كما يعتبر مؤلفه “شيخ المالكية في عصره” كما أَخْبَرَ عنه الزبيدي رحمه اللّه، وهو من أشهر فقهاء المذهب بالقرن العاشر فهو “الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن علي بن محمد بن سليمان الأنصاري الخزرجي التتائي المصري المالكي” رحمه اللّه.
ويأتي تأليفه لهذا الشرح استجابةً منه لطلبٍ وَرَدَ عليه من مكّة؛ لإتمام ما نَقَصَ من شرح الرسالة، المنسوب للشيخ أبي المحاسن يوسف بن حسن التتائي الشهير بالهاروني، فكانت إجابته بأن وضع شرحاً كاملاً على متن كتاب الرسالة من أوله إلى آخره.
شرع الإمام التتائي في شرح مسائل العقيدة التي بدأ بها صاحب الرسالة، وأردف شرحه بشرح الأبواب الفقهية بدءاً بكتاب الطهارة ثم كتاب الصيام، وكتاب الاعتكاف … إلى أن ختم بكتاب الحج والعمرة، على وفق ترتيب ابن أبي زيد، وفي أثناء شرحه يذكر كل كتاب وما يشتمل عليه من الأبواب، ثم يذكر عبارة المتن ويشرع في شرحها شرحاً سهلاً مفهوماً، كما أنه يشرح الألفاظ الغريبة ويعتني عند تحريره للمسائل الفقهية بذكر أقوال وآراء كبار فقهاء المذهب، وفي بعض المسائل يحكي الخلاف فيورد أقوال وآراء أئمة المذاهب الأخرى -رحمهم الله دون ترجيحٍ بينها، وكثيراً ما يَسْتَدِلُّ بالآيات القرآنية، وبالأحاديث النبوية الشريفة، لكن دون التثبت من صحة الأحاديث، مع الاستشهاد أحياناً بأبيات شعرية بعضها من نظمه، وهذا كله بأسلوب سهل لا تعقيد فيه ولا تطويل، والملاحظ في الجملة أن العلّامة التتائى اعتمد في شرحه على أقوالِ غيره من شُرَّاحِ الرسالة، كالقاضي عبد الوهاب البغدادي وابن ناجي التنوخي وغيرهما، كما اعتمد أيضاً أقوال كثير من الأئمة المعتبرين، كالباجي وابن العربي والقرافي والفكهاني والتفتازاني والسنوسي وغيرهم من العلماء، ولم يصل الأمر -كما يقول المحقق -إلى حَدِّ نسخ شرح غيره كما نُسب له من أخذ تعب “المنوفي”، فمن وضع شرحين على “مختصر خليل”؛ لن يصعب عليه أن يؤلف شرحًا مختصرًا على الرسالة مع سهولة عبارتها وقَلَّةِ تفريعاتها.
ونظرًا لقيمة هذا الشرح وكثرة فوائده نجده عُمدةً ومرجعاً لمن جاء بعده، فكثير من فقهاء المالكية الذين أتوا بعده يستندون في تأليفهم على شرحه، ومن الناقلين عنه من شُرَّاحِ الرسالة أبو العباس أحمد بن غنيم بن سالم بن مهنا (ت1125هـ) في «الفواكه الدواني»، وعلي الصعيدي العدوي (ت1189هـ) في «حاشيته على شرح كفاية الطالب الرباني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني»، وأحمد الصاوي (ت1241هـ) في «بلغة السالك»، وينقل عنه من المالكية المتأخرين صالح عبد السميع الآبي في «الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني»، وقد نشر لهذا السِّفر النفيس ثلاث طبعات، أردت في هذه الوريقات بيان ما وقفتُ عليه فيها، وعرض خصائص كل طبعة، وهي على النحو الآتي:
طبعات كتاب تنوير المقالة:
1- بدراسة وتحقيق: محمد عايش عبد العال شبير، الطبعة الأولى سنة 1409هـ/1988م (دون ذكر دار النشر).
والتي اقتصر المحقق فيها عمله من بداية الكتاب وحتى كتاب الجهاد فقط، واعتمد في تحقيقه على 3 نسخ مخطوطة فقط، وهي:
• نسخة دار الكتب المصرية.
• نسخة جامعة الإمام محمد بن سعود.
• نسخة مكتبة تشستر بيتي/ دبلن.
2- طبعة دار المالكية بتحقيق الشيخ أحمد طهطاوي -حفظه الله، والذي قام بتحقيق المتن ومقابلته على عدة نسخ خطية، دون ذكرٍ لعددها، أو إشارة لمصادرها، ويذكر المحقق أن من قام بمقابلة النسخ هو د.إبراهيم السِّناري، وما يميّز هذه الطبعة هو اعتناء المحقق بالمصطلحات الفقهية والأصولية، وبيان المُشكل من الألفاظ والتي وردت بالمتن والشرح، والأهم من ذلك في نظري هو عناية المحقق بَتَتَبُّعِ الأقوال الفقهية للشَّرْحِ داخل المذهب وخارجه، وعزوِها إلى مصادرها الأصلية والمعتمدة في كتب المذاهب الفقهية، المطبوعة منها والمخطوطة، وكذلك ترجمة الأعلام الذين ذُكروا بالشَّرح، وعنايتُه اختَصت بغير المشتهرين منهم، كما قام المحقق بعَنْوَنَةِ بعض الموضوعات والمباحث الفقهية؛ ليسهل عرض المادة والاستفادة منها، وبيان مشهور المذهب وراجحه كلَّما مرَّ بالمحقق ترجيح للمرجوح سواء من صاحب المتن أو الشرح.
3- طبعة دار المُحسن بالاشتراك مع دار ابن حزم بتحقيق الشيخ ليامين بن قدور مكراز -حفظه الله، وهي من مطبوعات الخزانة الجزائرية للتراث، حيث بلغت نسخ المخطوطات 22 نسخة، وكما يقول المحقق -حفظه الله لم يكن الإكثار من النسخ مقصودا لذاته، إنما لنقل الفوائد من نسخة المؤلف واعتمادها، وكذلك ما جاء في شروحات وحواشي العلماء خدمةً للشرح ذاته، فقد بلغت التعليقات على المتن نفسه 1000 تعليقٍ خادمٍ للنصّ مباشرةً، سواءً في إثبات لفظةٍ ما، أو لبيان الغرائب أو الأوهام أو خلاف الأولى، الذي وقع فيها المصنِّف أو النَّاسِخ، كما تميَّزت هذه الطبعة بوضع قسمٍ دراسيٍّ في مجلد مستقل بلغ 352 صفحة من إعداد الشيخ ليامين بن قدور امكراز بارك الله فيه، جمع فيها شتات كلام التتائي على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، كما تم في هذه الطبعة استخراج رواية التتائي نفسه لمتن الرسالة من نص الشرح والهوامش والحواشي، و بيانُ ألفاظ الرسالة و إعرابها وخلاف رواياتها، و فيما يتعلق باختلاف النسخ تبعا للشرح، كما أن شرح التتائي للرسالة هو مختصر لشرح “مختصر خليل”، وللتتائي شرحين على مختصر خليل أحدهما “جواهر الدرر في حل ألفاظ المختصر” وثانيهما “فتح الجليل في حل ألفاظ جواهر درر خليل”، فقد صرَّح التتائي أنه انتقى الفوائد من شرح فتح الجليل على مختصر خليل، فإذا كانت هناك إحالة إلى هذا الشرح كقوله: “قد فَصَّلْتُ فيها في فتح الجليل”، فيتم نقلها لتمام الفائدة.
الخلاصة:
بعد فحص ومعاينة لطبعات كتاب “تنوير المقالة في حل ألفاظ الرسالة.. للإمام التتائي” ما أنصح به من الطبعات هي طبعة الخزانة الجزائرية للتراث.
فقد تميَّزت طبعة الخزانة الجزائرية للتراث عن غيرها بحسن صنعة التحقيق، ويراعة التدقيق، فهي عظيمة الفائدة، جليلة المعرفة، مطبوعاتها سارت بها الركبان وتجملت بها رفوف المكتبات، وهي وصل أَخّاذٌ بين تراث المتقدمين ونتاج المتأخرين والمعاصرين، ومن طاف ببصره في نتاج الخزانة الجزائرية للتراث علم امتيازها بين أخواتها من الدور والمكتبات، وعدم اجترارها لأعمال من سبق بلا إضافة ولا تحرير، هي نسيج وحده، جمعت في موجز الألفاظ سابغ المعاني، خص الله القائمين عليها بامتيازات عزيزة الوجود في أهل زمانهم، كأنَّ صنعة التحقيق شعارهم، والتدقيق طبعهم، والحذّاق وصفهم .. تقبل الله منهم وجزاهم عنّا وعن الإسلام خير الجزاء.