شهيد الصورة.. حين تنطق العدسة بدماء الحقيقة

أ. مصبح الورفلي
لا أدري من أين أبدأ، وماذا أقول، أمام مشهد يختزل وجع أمةٍ بأكملها في صورةٍ واحدةٍ التقطها بطلٌ لم يسعَ للشهرة، بل للحق. أخجلتنا صور التضحيات الجِسام التي تبثّها غزة كل يوم، تضحيات لا يتصورها عقلٌ بشري ولا تستوعبها مخيلةُ مؤرخٍ مهما بلغ خياله.
غزة اليوم ليست مجرد مدينة محاصَرة، بل مدرسة معاصرة في معنى الصبر والفداء. أعادت إلى أذهاننا قصص الأولين التي قرأناها بدهشة عن بطولات الصحابة والمجاهدين، فإذا بها اليوم تتحقق أمام أعيننا، لا في كتب السير ولا بين دفّات التاريخ، بل على شاشات هواتفنا الصغيرة، تنقلها عدسات الأبطال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
لم يكن لبطولات غزة أن تصل إلى العالم، لولا مجاهدي الكلمة والصورة. أولئك الذين حملوا الكاميرا كما يحمل المقاتل سلاحه، واجهوا الموت من أجل أن نحيا نحن على الحقيقة. إنهم شهداء الصورة الذين يكتبون بدمائهم فصولاً جديدة من الوعي الإنساني.
من بين هؤلاء كان الشهيد الصحفي صالح الجعفراوي، أحد فرسان الميدان الإعلامي، الذي نذر عدسته لتوثيق الحقيقة حتى اللحظة الأخيرة، فسقط مضرجًا بدمه على أرضٍ عشقها وعدسته شاهدة. لم يكن صالح يبحث عن مجدٍ شخصي، بل عن حياةٍ لقضيته، عن صوتٍ يصل من بين الركام، وعن ضوءٍ صغيرٍ في ليل الحصار الطويل.
رحل صالح، لكنه لم يرحل عن الصورة؛ فكل لقطةٍ التقطها بقيت حيّة، تنطق بما أراد أن يقوله للعالم: “ها نحن هنا، لم نُهزم، ما زالت الكاميرا تقاوم.”
رحل جسدُه، لكن رسالته تسكن كل صحفيٍّ ومصورٍ ومذيعٍ يواصل حمل الأمانة، رغم الخطر، رغم القصف، رغم الخذلان.
لقد غيّر هؤلاء الأبطال – بنضالهم وعدساتهم – نظرة العالم إلى القضية الفلسطينية. بكاميراتهم الصغيرة حطّموا روايات الاحتلال الكبرى، وفضحوا أكاذيبه التي طالما خدعت العقول واستعطفت العواطف باسم الإنسانية المزيّفة.
لقد أعادوا بناء سردية الوعي من تحت الركام، وربطوا العالم بنبض غزة مباشرة، لا عبر وكالاتٍ منحازة ولا نشراتٍ ملوّثة، بل عبر بثٍّ حيٍّ من قلب الجرح. صار الهاتف المحمول سلاحًا، والصورة قذيفة، والمقطع القصير أداة مقاومة تفوق وقع الرصاص في عقول الملايين.
اليوم، ونحن نودّع الشهيد صالح الجعفراوي وزملاءه من شهداء الإعلام الفلسطيني، ندرك أن المعركة الإعلامية ليست هامشًا على الحرب، بل هي روحها وبوصلتها. فالإعلام المقاوم هو الذي يصنع الرواية، ويحمي الحقيقة من التحريف، ويبقي جذوة الوعي متقدة في وجدان الأمة.
لقد قدّم الجعفراوي وزملاؤه أرواحهم ليحيا صوت الحقيقة، فكانوا الحراس الأوفياء لذاكرة الأمة وصورتها النقيّة. هم لم يموتوا، لأن الصورة لا تموت، والذاكرة لا تُقصف، والحقيقة لا تُدفن.
إن معركة الوعي لا تقلّ شأنًا عن معركة الميدان.
فعلى الإعلام العربي والإسلامي أن يدرك مسؤوليته التاريخية في خوض هذه الحرب بصدقٍ واحترافٍ وجرأة، وأن يوفّر الدعم والحماية لفرسان الكلمة والصورة في الميدان، وأن يجعل من الإعلام المقاوم مدرسةً تُدرَّس للأجيال القادمة.
رحم الله الشهيد صالح الجعفراوي، وكل شهداء الحقيقة، الذين جعلوا من عدساتهم منابر للحرية، ومن صورهم شواهد لا تُمحى على أن الكلمة حين تصدق، تُصبح سلاحًا لا يُهزم.