مقالاتمقالات الرأيمقالات فكرية

شيء عن الثقافة السننية.

 

د. يونس ملال

اهتم علماء ومفكرون مسلمون كثر بموضوع السنن الإلهية، وكتبت فيه كتابات محترمة ما فتئت تتزايد منذ حوالي قرن من الزمان، حتى اعتبرت نخبة من العلماء والباحثين المعاصرين العقلَ المسلمَ في صورته المثالية عقلا سننيا بامتياز، كما اعتبروا الثقافة الإسلامية التي ربى عليها القرآن الكريم الإنسان المسلم، وربّى عليها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام، ومكنت أمتنا بدءا بالسلف الصالح من بناء الحضارة الإسلامية هي: ” ثقافة سننية”.
ومن ثمة يؤكد هؤلاء العلماء على العودة إلى الثقافة السننية من أجل إعادة بناء الحضارة الإسلامية؛ وذلك بتعميق الوعي بسنن الله في الآفاق والأنفس، وتنشئة الجيل على التعامل معها، لا سيما أن مرحلة التقهقر الحضاري الذي منيت به أمتنا كانت سببا في تفشي أنواع من التفكير المرضي الذي يمكن القول عنه إنه شكَّل أنواعا من الثقافات غير السننية (اللاَّسننية)، التي أوجدت لنفسها مساحة للتوسع والتغلغل في ظل تراجع أمتنا للأسف..!!
والثقافة السننية التي أتحدث عنها هي ثقافة ترى أمتنا الإسلامية، “أمة الإيمان والعمل الصالح” كما حدد رسالتها القرآن الكريم، في مقابل “أمة الأماني بلا عمل” التي قال الله تعالى في شأنها: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به)، هي ثقافة “الفرار من قدر إلى قدر”، فرار من قدر الجهل والعجز والكسل، إلى قدر العلم والتمكين والعمل، “ثقافة اتخاذ الأسباب” في مقابل “ثقافة التواكل ورمي التقصير على مشجب الأقدار”، هي “ثقافة العمل المنهجي”، المبني على العلم بحقائق الأمور، والسير في الأرض، والنظر في الآفاق والأنفس، والاعتبار من التاريخ والواقع، بدل الحماس الزائد، والسلوك العاطفي، الذي يصطدم بطبائع الأشياء، وبسنن الله، ويؤدي بنا باستمرار من إخفاق إلى إخفاق.. !! إنها: ثقافة بذل الجهد وأداء الواجب وتهيئة شروط الرقي بنشاط وتضحية وفاعلية..
ومن شأن الثقافة السننية أنها تتجاوز الغموض إلى الوضوح، والعبثية والفوضوية والارتجال إلى النظر المنهجي المنظم، في المؤهلات المعرفية والأخلاقية والعملية، لتساعدنا على تجاوز وضعنا الحضاري الصعب..!!
وفقد الثقافة السننية اليوم أو ضعفها، كما يرى كثير من الباحثين، والذي تطفح به حياتنا اليومية في مظاهرها العلمية والعملية والنفسية والاجتماعية والتربوية والدينية، وحتى الاقتصادية والصناعية، تجعل الكتابة عن الثقافة السننية ضرورة ملحة في اللحظة الراهنة، وذلك لما تقتضيه أسئلة الراهن وسبل التفكير في الإجابة عنها.. !!
كما أن فقد الثقافة السننية عند كثير من النخب فضلا عن عموم الناس، قد أثر في نظرها المنهجي وقراءتها التحليلية في سبيل فهمها للواقع الاجتماعي والحضاري على ما هو عليه، في شعب الحياة المختلفة. ومجموع الملاحظات المستلة من واقعنا المعاش تؤكد فعلا فقد الثقافة السننية، ولعلها تتلخص في جملتها، في إرادة هذه النخب تحصيل نهضة مجتمعية بلا إعداد كفاءات نزيهة مؤهلة، أو رومها نهضة علمية، بغير إعداد لعلماء في كافة القطاعات يكونون أكفاء نزهاء شرفاء.. !! مما يدل بالنتيجة والمحصلة، على أن الصدق والحماس والرغبة في النهوض لا تكفي وحدها، وأن التنمية المجتمعية والحضارية للأمة هي نتيجة لا تتأتى إلا بتأهيل الإنسان والمجتمع فكرا ومنهجا وسلوكا وخلقا، النتائج لا تُؤتي ثمارها بلا مقدمات.. !!
ورسول الله عليه الصلاة والسلام ربّى أصحابه على ثقافة سننية هي ثقافة البذل والتضحية والعطاء في سبيل الوصول إلى تحقيق الأهداف، ولم يربهم يوما على القعود وهم يظنون أن الأقدار تنشط لهم حيث يكسلون، أو تعرف لهم حيث يجهلون، أو تعمل لهم حيث يفرطون.. !! لم يعتقدوا يوما أن الله سينصرهم دون أن يكونوا أهلا للنصر، أو يؤدوا شروطه، أو يدفعوا ثمنه وكلفته.. هذه كانت ثقافتهم السننية التي جعلتهم يفتحون آفاق الدنيا.. !!
إلى أن اجتاحت الأمةَ الإسلاميةَ أشكال من الثقافات اللاَّسننية التي حولت الأمة إلى وضع نفسي وسلوكي مختلف، جنت منه مر التقهقر أمام أمم الأرض الأخرى.. !!
حتى وجدنا أن العالم الغربي المادي قد استفاد من حضارة المسلمين الأولى، وأخذ عنهم منهجهم العلمي الاستقرائي، وغيّر ثقافته، وبنى حضارته، وأصبح ينتج المعارف والعلوم، يحدوه نشاط محموم من أجل الإنتاج والنمو والقوة والسيادة، رغم كفره ومبادئه الضالة، إذ اكتشف كثيرا من أسرار الله في خلقه، وراعى إلى حد ما نظامه وسننه، وإن كان بعد ذلك جحد نعمة الله وفضل المسلمين عليه، وسنن الله لا تحابي أحدا من خلق الله، ولا تتلون بتلّون العباد، ولن تجد لسنة الله تحويلا.. !!
ومن جهة أخرى، نجد عالمنا الإسلامي قد تراجع في إنتاج العلم، فلا نكاد نجد له حضورا فاعلا في المنجزات العملية والحضارية الكبرى، رغم أننا نمتلك المبادئ الصحيحة التي جاء بها الوحي الأعلى، نتيجة فقد العالم الإسلامي لفاعليته الاجتماعية التي كانت تمده بها ثقافته السننية، وكأن عالم الإنسانية اليوم صار منقسما بين عالَم نشط من أجل مبادئ خاطئة وعالَم خَمُول يمتلك الحقيقة.. !! وهذا الوضع يجب أن يُشعِر المسلمين بمسؤوليتهم الثقيلة أمام أنفسهم وأمام العالم، ويحيي فيهم روح الإرادة لأداء رسالتهم من جديد .. !! وهذا الوضع مرة أخرى ليس سوى نتيجة لذهولنا عن الثقافة السننية.. !!
وحين ذهلنا عن هذه الثقافة اجتاحت ساحتنا الفكرية ثقافات غير سننية شكلت جملة من العقبات في سبيل نهضة أمتنا منها على سبيل المثال :
الثقافة الصوفية الطرقية التي رسخت في عقول المسلمين ثقافة التواكل، والقبول بالأمر الواقع، على اعتبار أنه قدر لا مهرب منه، وصدرت لهم أحلام اليقظة بالترويج لكرامات الأولياء والصالحين بصفة تجعلهم لا يحتاجون إلى بذل وعلم وعمل، فهم بعد السلوك والوصول ستكشف لهم حجب الغيب، وسيفتحون أقفال الأبواب بلا مفاتيح، ويضربون الحجر فينقلب ذهبا، ويركضون الأرض بالأرجل فتخرج لهم مغتسلا باردا وشرابًا.. !!
فعلامَ إذن الحاجة إلى حفر الآبار، وزراعة الأرض، وبناء المصانع، ووضع الإستراتيجيات، وإعداد الجيوش.. !! إنها ثقافة تعبر عن أمة في مرحلة انهيار الإرادة والاستقالة من الحياة تاركة الأرض لمن يرثها، والاستعاضة عنها بالهيام في السماء.. !! وهذه بلا شك واحدة من الثقافات اللاسننية “ثقافة مرحلة الاحتضار”.. !!
ومن الثقافات اللاَّسننية ما يمكن تسميتها “ثقافة الانتظار”، سواء كان انتظارا لخراب الدنيا أو لعمارتها.. !! فهناك شريحة واسعة من المسلمين، من النخب والعوام، لا يعملون شيئا لمستقبل أمتهم، لكنهم يثرثرون كثيرا حول المستقبل، وحديثهم عنه يشبه حديث الكهان، فلا هم لهم سوى الحديث عن نهاية الزمان، ومجيء المهدي، وعيسى عليه السلام ليخلصا المسلمين مما هم فيه، وهؤلاء الذين لم يطلعوا على الغيب، ولم يتخذوا عند الله عهدا، ومع ذلك يلقون اليأس والقنوط في قلوب المؤمنين بكلامهم عن حلكة الزمان، ويعلمونهم أن واجب الوقت أن ينتظروا الأحداث الكبرى القادمة، في حين أن أمم الأرض الفاعلة تصنع هذه الأحداث.. !! .. فالأمم الأخرى التي تنبهت إلى ثقافة اتخاذ الأسباب، تربط النتائج بالمقدمات والنجاحات بالأعمال .. لقد راحوا يعملون وينتصرون بينما أكثر المسلمين، يتلقون الهزائم وينتظرون..!!
ومن الثقافات اللاسننية “ثقافة الانبهار” التي أعماها بريق الحضارة المادية الحديثة، فأرادت بحماس منقطع النظير أن تنقل تجربة الغرب إلى الشرق، فزادت من عجز المسلمين وعبوديتهم للغرب، ذلك أنها ثقافة تقليد، لا تنطلق من دراسة الواقع ولا من معرفة الذات والآخر ولا من فهم الماضي أو التخطيط المنهجي لبناء المستقبل، إنها فقط منقادة بنزعة الإعجاب، مولعة بالغالب، هائمة في حبه، كالطفل الصغير الذي يقلد أباه فيثير سخرية الكبار أحيانا.. !!
وقد جعل هؤلاء العالم الإسلامي مثار سخرية في مناسبات كثيرة حين جعلوه يقلد اللبراليين مرة والاشتراكيين أخرى .. فهذه الثقافة لعلها من أخطر أنواع الثقافات اللاسننية في زماننا الراهن.. !!
ومن أهمية الثقافة السننية أنها نوع من التفكير ينظر إلى النجاحات الكبرى في التاريخ على أنها نتيجة لتراكمات أعمال وجهود ومعارف دقيقة بطبائع الأشياء.. وأي خطأ في العلم والمعرفة، أو أي تقصير في الفعل والإعداد والتخطيط، ستظهر نتيجته إخفاقا لا محالة، تقتضي مراجعة الفكر والعمل مرة بعد مرة، وليس الإصرار على خط السير نفسه أو ندب الحال والبكاء على الأطلال.. !!
وللبكاء على الأطلال مثقفوه، الذين يواجهون إخفاقات اليوم بالفخر بإنجازات الأمس.. مما يمكن تسميته “ثقافة الافتخار”.. !! فكلما وقف هؤلاء عاجزين أمام التحديات الحضارية المختلفة، قالوا لقد كنا وكان أسلافنا.. !!.. وغني عن البيان، أنك إذا رويت لفقير عن المجد الذي كان لآبائه، أو لجاهل عن العلم الذي نشروه، أو لمتخلف عن المجد الذي كسبوه، فإنك لن تغيّر من وضعه، حتى لو كنت بتلك الحكايات العذبة تنسيه حاله وتسليه عنها لبعض الوقت.. !!
ونزعة المديح للماضي حين تُتخذ منفذا للهروب من الحاضر، تصبح نزعة قاتلة للتفكير السنني وللعمل الإيجابي البناء من أجل النهوض.. !! وقد تصيب النفوسَ الميّالةَ للدعة والسكون بغرور موهوم، وتفوق مزعوم، لا حقيقة له إلا في ماضٍ مضى وانقضى.. !!
الثقافة السننية كما أفهمها، هي ثقافة ضد الخرافة والجهل واليأس والتواكل والكسل وتعليق الإخفاقات على الأقدار أو على الأعداء أو الخصوم، وكل أنواع الزيف والهروب من المسؤولية، ومنطق القرآن الكريم، يقول: “قل هو من عند أنفسكم”.

الثقافة السننية هي الثقافة التي يسعى أصحابها إلى التعرف إلى سنن الله في الآفاق والأنفس.. في الإنسان والتاريخ والمجتمع والكون، ويسعون لتحويل هذه المعرفة إلى قوانين علمية ثابتة، ثم يرسمون الخطط للعمل وفق هذه القوانين، فعلى وفق سنن الله ونظامه الثابت المطرد يتم الإعداد والعمل.. ثم إذا تخلفت النتائج المرجوة، يعود أصحاب هذه الثقافة إلى المراجعة والنقد الذاتي والبحث عن مكامن القصور والخلل، دون كلل أو ملل لمعرفة مكمن الزلل.. يفعلون كل ذلك مستعينين بالله، صادقين معه، فعلى هدي من الله وفي إطار نظامه الذي بثه في الوجود يكون سيرهم سيرا علميا بصيرا لا عاطفيا ضريرا.. !!
وعلى العكس من هذه الثقافة، فإن الثقافات التي تشيع في المسلمين “احتضار الطرقيين، وانتظار السلبيين، وانبهار المستلبين، وافتخار الماضويين”.. هي ثقافة تفتقد الحس المنهجي، وتكرر الأخطاء نفسها دائما، وتنتظر نتائج مختلفة وهيهات..!! .. يعرف ذلك العقلاء من عباد الله، أما المجانين فلهم حديث وحكاية أخرى..!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى