عاممقالاتمقالات الرأي

صناعة القادة: (بوتين) أنموذجا(1)

بقلم د. علي جمعة العبيدي

من صفات القائد، أولاً: الثقة بالنفس. فالقائد الواثق بنفسه يؤمن بقدراته ومهاراته، وله رؤية واضحة للمستقبل، ويثق بقدرته على تحقيق الأهداف. وهذه الثقة تُمكّنه من اتخاذ القرارات الصعبة، وتحمل المسؤولية، وتُحفيز الفريق للتغلب على العقبات. فالتعلم من الأخطاء، والتَّحدُّث بِثقة، والتّواضع مع تقدير الذات، كلها عوامل تساهم في بناء هذه الثقة.
ثانيًا: تكوين انطباع أول جيد. عندما يُظهر القائد بشكل فوري ثقةً واحترامًا لمن يُقابله، ويُعبّر عن أفكاره بوضوح وثقة، مع الاهتمام بلغة جسده ومظهره الخارجي، فإنها تُمكِّنه من كسب ثقة الفريق والشركاء وإقامة علاقات متينة منذ البداية. ويكون ذلك من خلال الابتسامة والتواصل البصري، والتحدُّث بِوضوح وبِهدوء، والبحث عن نقاط التشابه مع الآخرين.
ثالثًا: قوة التّحمل.
فالقائد القوي التّحمل يستطيع أن يُواجه الضغوط والتحدّيات بشكل إيجابي ودون أن يَفقد تركيزه وعزيمته. وهذا يساعدُه على التّكيف مع المواقف الصعبة والتغيرات المفاجئة وإدارة الضغوط النفسية. ويكمن اكتساب قوة التحمل عن طريق ممارسة التمارين الرياضية، والتأمل، والتعلم من الخبرات الصعبة، والتصرف بحكمة ودون عجلة.
رابعًا: المرونة والتكيف. فالقائد المَرن والمتكيّف يستطيع أن يتغيّر مع ظروف العمل والمواقف الجديدة، وأن يُؤقلم استراتيجياته وخططه حسب الواقع المتغير.
خامسًا: بناء الثقة في التعامل مع الآخرين. يُحقق القائد ثقة الآخرين به من خلال الصدق والمصداقية، والتواصل الفعال، والتعامل باحترام وتقدير مع جميع الأفراد. تُمكن هذه الثقة في القائد من بناء فريق عمل متماسك ومحفز، وإدارة العلاقات بكفاءة ونجاح. ويكون ذلك من خلال ممارسة الاستماع بِانتباه، والتعاطف مع الآخرين، ومُشاركة الأفكار والتجارب، والتقدير لأراء الأفراد المختلفة.
سادسًا: تطوير فريق العمل. يهتم القائد بتطوير مهارات فريقه وإعطائهم الفرص للنّمو والتّعلم، ودعمهم في تخطّي التّحدّيات وتحقيق الأهداف المُشتركة. ويُمكن تحقيق ذلك من خلال مُشاركة الأفكار والتّجارب، وتوفير الفرص لِلتّعلُّمِ والتّدرُّب، وِالتّقدير لِجهود الفريق، وِمُساعدة الأفراد في التغلّب على صعوباتهم.
أصبحت صناعة القيادة علمًا احترافيًّا مهنيًّا تخصصيًّا عالي التكلفة، وتستفيد منها الدول المتقدِّمة في توجيه المجتمع بقوة التأثير العاطفي من خلال القيادة الاحترافية. فنجد أن روسيا استطاعت أن تصنع قيادة ملهمة وقوية في شخصية الرئيس بوتين بالاستفادة من القدرات الشخصية العالية في التخطيط بعيد المدى وقوة التركيز الذهني وتعدد المهام الذهنية وقوة التفاوض والإقناع، مستفيدةً من الخبرات التراكمية العسكرية والسياسية في حياته المهنية، مع وجود هيكل استشاري قوي مدعوم بمراكز بحثية علمية متطورة ومنفتحة على العالم تتميز بالقدرة العالية على المرونة والتكيف؛ لتحقيق أقصى حد من التنبؤات واستشراف المستقبل لمساعدة القيادة في اتخاذ القرارات الاستراتيجية وأن تظل روسيا في مقدمة الأمم في السيطرة على العالم وأن تكون هي الأولى عالميًّا.
ونجد أثر شخصية القائد القوي المسيطر يلعب دورًا كبيرًا وواضحًا جدًّا في حرب روسيا على أوكرانيا، فالكاريزما الشخصية للرئيس بوتين كانت قوية جدًّا وطاغية على المشهد عكس شخصية الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فِالخلفيّة التي جاء منها (التّمثيل) لم تساعده على فرض سيطرته ونفوذه على الوضع العسكري، كما لم يكن مفاوضًا قويًّا في الجولات التي قام بها. فكاريزما الممثل التي جاء منها لم تساعده على مواجهة تحديات الواقع العسكري الحربي وتداعيات الحرب، ووجود جزء من الشعب يؤيد التدخل الروسي لم يُواجه بقوة من قبل فولوديمير لنفس السبب السابق. فهل كان وجود شخصيته كرئيس في هذا الوقت مناسبًا لِتمثيل دور قائد الحرب؟ لا أظن أنه كان مُعدًا لذلك ولم يكن متوقِعًا أن يكون في هذا الدور، ولأنه لا يتوافق مع استعداداته الفطرية وقدراته الذهنية وخبراتِهِ السابقة لمثل هذا الدور، هنا تظهر أهمية مراكز الدراسات الاستراتيجية التي تساعد في صناعة الصورة الذهنية للقيادة حسب متطلبات الواقع السياسي العالمي ليكون التأثير العالمي قويًّا وذو نتيجة مباشرة.
أشارت المراكز البحثية في أمريكا بأن حرب روسيا المستمرة ضد أوكرانيا كانت أزمة يمكن تجنبها، وذلك بسبب سياسات إدارة بايدن غير الكفؤة ورفضها نهج “أمريكا أولاً” في الأمن القومي، والذي أدّى إلى إشراك أمريكا في حرب لا نهاية لها. وتسبّبت سياسات إدارة بايدن الخائفة من المخاطرة في تسليح أوكرانيا، بالإضافة إلى فشل الدبلوماسية مع روسيا، في إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، التي أصبحت الآن حرب استنزاف مع روسيا. أكدت المراكز البحثية بأنّ إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا يتطلب قيادة قوية من نهج “أمريكا أولاً” لتقديم اتفاق سلام وإنهاء الأعمال العدائية بين الطرفين المتحاربين على الفور. سوف نوضح أكثر ما ترمي إليه هذه المراكز بمتطلبات نهج “أمريكا أولاً” وعلاقته بالانتخابات الأمريكية المقبلة في السلسلة القادمة -إن شاء الله-.
أوضحت الحرب على أوكرانيا جليًّا أهمية الدور الاقتصادي والعسكري والسياسي في فرض السيطرة على العالم وقوة المواجهة الدولية وتفكيك التمركزات الإقليمية من خلال المصالح المتبادلة بين الغرماء، رغم التحديات الواقعية وظهور الدور الرمادي في السياسيات الدولية. فالعالم الآن أصبح قرية صغيرة تتأثر بكل الأحداث معًا كرقعة شطرنج فيها الملك والوزير وبقية المكونات. فالآن كل من روسيا وأمريكا والصين تلعب على تبادل الأدوار القيادية، تاركةً بقية المكونات للدول والتمركزات الأخرى، إلا أنّ مراكز البحث الأمريكية تَجد أنّ الدور الأمريكي في السياسات الخارجية أصبح ضعيفًا وغير مسيطر على الوضع بسبب ضعف القيادة وتشتيت الجهود. كما أنّ تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة سيكون لها ما بعدها في التأثير على الناخب الأمريكي في الانتخابات المقبلة، إن استمر الوضع على ما هو عليه. وإذا وصل الطرفان إلى تسوية سياسية، حتماً ستكون من صالح فلسطين، مما يؤثر على مراكز القوة المؤثرة في صنع القرار الأمريكي وبالتالي على حركة الانتخابات الأمريكية، وهو ما سنفرد له مساحة خاصة في المقالات القادمة من السلسلة.
نجد صناعة الوعي المُوجه في الشعوب من خلال الآلة الإعلامية القوية المحترفة القادرة على إحداث فارق كبير جدًّا في توجهات الدولة المسيطرة، بصناعة صورة ذهنية إيجابية عن أهدافها وحقوقها الدولية ومصالحها، مما يمكن الشعوب من الاقتناع والالتفاف حولها. فإن الشعوب الواعية الآن هي من تصنع الفارق في قوة الدولة وتماسكها بالوعي البشري. وهذا الأمر ليس متروكًا لِفرضيات الصدفة، بل وراءه جهد جبار وكبير يُصرف فيه مبالغ ضخمة لإيجاد فرضيات تَشابه الواقع المتغير مع الأحداث، مما يُمكن القادة من توجيه دفة القيادة نحو الهدف مباشرة وتحقيق النجاح للأمة. فلا يمكن لأشخاص محدودين أن يقوموا بكل هذا الجهد الجبار، ما لم يكن هناك مؤسسات بحثية تُمدّهم بالبدائل للفرضيات، وتتوقع وتتنبأ بالأحداث لِوضع الحلول المناسبة لها. فوضع الشخص المناسب في المكان المناسب مع اكتساب درجة عالية من المرونة، والتكيف هو سر نجاح القيادات العالمية.
هل يُمكن لِلرئيس بايدن أن يُعزّز من مكانة أمريكا في العالم وِفق مُتطلبات الواقع السياسي الدولي ؟
وهنا يكون السؤال الجوهري: ما توقعات وتنبؤات انتخابات الولايات المتحدة الأمريكية 2024م؟
نتابع في المقالات القادمة.

Related Articles

Back to top button