عاممقالاتمقالات الرأي

صناعة القادة (2) : استشراف المستقبل، أداة لبناء الأمة

 

د. علي جمعة العبيدي

في عالم سريع التغير، لا بد من التكيف مع التغيرات المستقبلية والتأقلم معها بِذكاء. هنا يأتي دور “استشراف المستقبل” كأداة هامة للنجاح في بناء الأمة وتحقيق أهدافها،فهو عبارة عن تقدير لِاحتمالية وقوع حدث مُحدد في المستقبل، بِاستخدام المعلومات المتوفرة في الحاضر، و يُعتمد في التوقع على الدراسات الإحصائية والتحليل الكمي لِلمعطيات السابقة لِتحديد اتجاهات المستقبل، ويستخدم الجزء الأيسر من الدماغ في علمية التوقع فكلما كان الدماغ نشطاً في هذا الجانب كانت العلمية أسرع وأسهل من دون تعقيد ( الجانب المنطقي ) وقد يؤثر نشاط الجانب الأيسر للدماغ السلبي على كفاءة التوقع مثل الانفعالات الزائدة كالغضب والتهديد والعناد والسخط … الخ، والبئية المكانية أيضاً تؤثر على نشاط الجانب الأيسر للدماغ ، فنجاح عمليات التوقع المستمرة تُمكّن الدماغ من تنشيط الجانب الأيمن ( جانب الخيال ) فيكون قادراً على عملية التنبؤ وهي تُركّز على تحديد التغييرات والتطوّرات المُحتملة في المستقبل، مع التأكيد على العوامل وِالتأثيرات المُحتملة التي تُؤثر على هذه التغيرات و يُعتمد في التنبؤ على مزيج من التحليل الكمي والتحليل الكيفي بإستخدام المعرفة والخبرة والتوقعات الشخصية، وهنا يُتطلَّبُ اتزانٌ عالٍ في الوعي ، واستبصار الذات يُساعد كثيراً في عملية التنبؤ برفع القدرات الذاتية في معرفة التحيزات المعرفية والقدرة على التعامل معها في إيجاد بدائل للفرضيات ممّا يُمكّن الشخص من أن يكون مؤهلًا لعملية استشراف المستقبل، وهي عملية تتطلب مُستوى أعلى من التخيل والابتكار من التنبؤ ، وهي تُركّز على استكشاف المُستقبل المُحتمل وِتحديد الفرص والتحديات المحتملة في هذه الرؤية.
يُعتمد في استشراف المُستقبل على الدراسات الاستراتيجية والتحليل الكيفي لتحديد الِاتجاهات الكبرى وِالتّقنيات الجديدة والتغيرات السياسية والاجتماعية المُحتملة. فعليه ليس من السهل أن تتم علمية الاستشراف من دون عمل مؤسسي فيه كفاءات علمية و خبرات عملية وهو ليس وليد الصدفة أو رغبات عابرة أو قرارات لحظية، بل هو ركيزة أساسية في منهج بناء الأمة كما أشرنا إليه في المقالات السابقة ويُعتبر مؤشراً لتطور الأمة وتقدمها وتامسك مجتمعها، لا يُمكن لبناء الأمة أن يَتَحقَّق دون الاعتماد على استشراف المستقبل.
فِرَق العمل المؤسسية ذات الكفاءات العلمية وَخِبرَات عملية هي الضمان لنجاح هذه العملية.
تُعَدّ عملية استشراف المستقبل من أهم الأسس التي تُساهم في بناء الأمة وتُعَزِّز مكانة البلاد في العالم، وتُساهم في مختلف المجالات مثل:
أولاً : التخطيط الاستراتيجي، فبضع خطط استراتيجية واضحة لِتَحْقِيق الأهداف المُستقبلية ومواجهة التحديات الناشئة .
ثانياً : التنمية المستدامة ، تُساهم في تحديد الاستراتيجيات الضرورية لِتَحْقِيق التنمية المستدامة وضمان استخدام الموارد بِشكل عقلاني وِمُستدام .
ثالثاً : الابتكار وِالتّطور … تُساهم عملية استشراف المستقبل في تَحْدِيد مجالات الابتكار والتطور التي تُساهم في تَحْسِين مكانة الأمة في العالم.
رابعاً : تعزيز القدرة على التكيف … تُساهم عملية استشراف المستقبل في تَحْسِين قدرة الأمة على التكيف مع التغيرات المُستقبلية ومواجهة التحديات الناشئة بِشكلٍ فعال.
يُعتبر التنبؤ واستشراف المستقبل من أهم الأدوات التي يمكن للدول استخدامها لتحقيق أهدافها الدبلوماسية الخارجية، وتعزيز مصالحها الوطنية، وبناء عالم أكثر استقرارًا وأمنًا بتحديد الاتجاهات العالمية الناشئة في مجالات السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا والبيئة وتقييم التأثيرات المحتملة لهذه التغيرات على مصالحها الوطنية باتخاذ قرارات استراتيجية سليمة للتعامل معها بشكل استباقي من خلال بناء استراتيجيات فعالة، وباستخدام الوسائل الناجعة، وبوضع خطط طويلة الأجل للتعامل مع التحديات والفرص المستقبلية، وتحديد الأولويات الدبلوماسية، والتركيز على المجالات ذات الأهمية الاستراتيجية، وتوقع احتياجات الدول الأخرى، وتحديد المجالات التي يمكن التعاون فيها. كما يساعد على إدارة المخاطر وتقليلها واتخاذ إجراءات وقائية للحد منها أو الاستعداد للتعامل معها، وبالتالي تحسين قدرتها على التعامل مع الأزمات الدولية .
نستطيع أن نقول أن عملية استشراف المستقبل في العمل الدبلوماسي الخارجي للدول يسهم بشكل عام في تحسين التواصل الدبلوماسي و اتخاذ قرارات سليمة و تعزيز الأمن القومي و تحسين العلاقات الدولية، ويعزز التعاون بتبادل المعلومات والخبرات مع الدول الأخرى.
كانت شخصية (هنري كسنجر) بارزة في استشراف المستقبل في السياسات الأمريكية الخارجية، ويتجلى ذلك في عدة جوانب:
اتسمت سياساته بالواقعية، حيث ركز على المصالح الوطنية الأمريكية بدلاً من الأيديولوجيات، ودافع عن مفهوم التوازن في العلاقات الدولية، حيث سعى إلى منع هيمنة قوة واحدة على العالم، واستخدم هذا المفهوم لإنشاء علاقات مع الصين والاتحاد السوفيتي، مع العلم بأنها كانت تُعتبر عدوًّا للحلفاء الغربيين، فَهِمَ كسنجر التغيرات العالمية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك ظهور القوى الجديدة مثل الصين، وتدهور الاتحاد السوفيتي، وقد استشرف تغيّر التوازن الدولي، وأدرك أن الولايات المتحدة لم تُعد قادرة على فرض إرادتها على جميع الدول، لعب دورًا في إعادة تشكيل العلاقات الدولية مع العالم الناشئ، بما في ذلك الشرق الأوسط، و تنبأ كسنجر بالصراعات المحتملة في الشرق الأوسط، مثل الصراع الإسرائيلي-العربي، وخلق مبادرات لحلها. فحذر من خطر المنظمات الإرهابية والتطرف الديني. وحذّر من خطر “الناتو الموسع” في التسبب في صراعات جديدة مع روسيا، لم يعتمد كسنجر على القوة العسكرية فقط في العلاقات الدولية، بل أدرك أهمية القوة الناعمة، مثل الدبلوماسية والاقتصاد، فسعى إلى تطوير علاقات قوية مع الدول الأخرى من خلال التفاوض والحوار. واستخدم العلاقات الاقتصادية كأداة للتأثير على السلوك الدولي، كان كسنجر من أوائل من أدرك أهمية العلاقات الشخصية في العلاقات الدولية، فسعى لتطور علاقات قوية مع القادة الأجانب من خلال الاجتماعات الثنائية والتواصل المباشر .
كانت شخصية هنري كسنجر مستشرفة للغاية في سياسات الولايات المتحدة الخارجية، وذلك من خلال فهمه للتغيرات العالمية والتركيز على المصالح الأمريكية، وتطوير مفهوم التوازن في العلاقات الدولية، واستخدام الدبلوماسية والقوة الناعمة بجانب القوة العسكرية.
غزو أوكرانيا: كيف أخطأ بايدن في قراءة بوتين؟
كان انضمام أوكرانيا المحتمل لحلف شمال الأطلسي بمثابة شوكة في حلق فلاديمير بوتين منذ سنوات، قبل أن يتولى جو بايدن الرئاسة في يناير 2021م. في حين أبدى بوتين بعض الانفتاح على فكرة انضمام أوكرانيا لحلف الناتو في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، غيّر رأيه بعد قمة بوخارست عام 2008م، التي أكدت خطط الناتو لقبول أوكرانيا كعضو.
لطالما اعتبر بوتين أوكرانيا جزءًا لا يتجزأ من منطقة النفوذ الروسية، مدعيًّا أن الروس والأوكرانيين شعب واحد. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل نَفى وجود شعب أوكراني منفصل، معارضًا فكرة دولة أوكرانية مستقلة.
ففي عام 2008م، قال بوتين لجورج دبليو بوش: “عليك أن تفهم يا جورج. أوكرانيا ليست حتى دولة”. و في زيارة إلى كييف عام 2013م، بل ذهب أبعد من ذلك في قوله: بأن “الله أراد أن يكون البلدان معًا”، مشيراً إلى أن اتحادهم بمثابة “سلطان الرب” الذي لا يمكن تغييره.
وفي مقال نُشر في يوليو 2021م بعنوان “حول الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين”، أكد بوتين على هذه الفكرة مرة أخرى، معتبراً أن أوكرانيا لا يمكن أن تكون ذات سيادة إلا بالشراكة مع روسيا. كما زعم أن أوكرانيا الحالية تحتل تاريخياً أراض روسية.

كل هذا يدل على أن بايدن لم يفهم بوتين و إستراتيجيته الحقيقية منذ بداية توليه منصبه. فقد كان واضحاً من سنوات أن بوتين مستعد للتصعيد والاستخدام للغزو الحماية ما يرى أنه مصالح روسيا الأساسية.

كيف استطاع الرئيس الأمريكي توظيف منهج استشراف المستقبل في قيادة امريكا ؟

ما هي توقعات وتنبؤات انتخابات الولايات المتحدة الأمريكية 2024؟

نتابع في المقالات القادمة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى