اجتماعيةعاممقالاتمقالات تربوية

عثمان بن عفان رضي الله عنه فقيه التجهيز في سبيل الله

د. محمد همام سعيد

نعيش في هذا المقال مع إمام من أئمة الجود في هذه الأمة، مع السباق لكل خير وفضل، صاحب البصمة الخالدة والأثر البالغ الممتد في تجهيز المجاهدين في سبيل الله، وهو أحد السابقين الأولين، وأحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشرة بالجنّة، وأشد الأمة حياء، ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد تكررت فيه على لسان النبي ﷺ نصوص الفضائل، وكان مما قال فيه: “ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم، ما ضر ابن عفان ما عمل بعد هذا اليوم”(1)، وسنتوقف مع سيرة التجهيز الجهادي لهذا الصحابي المعطاء.

فقد تقصّى عثمان رضي الله عنه بفقهه العميق عن أولى مجالات الإنفاق في سبيل الله، المجال الذي تتضاعف فيه الأجور أضعافا كثيرة، والذي لا يعدله شيء في ميدان العطاء في سبيل الله، فوجد ضالته بعد سماعه للنبي ﷺ وهو يحث المسلمين على تجهيز المجاهدين وإخلافهم في أهليهم فقال “من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومَنْ خلفه في أهله بخير فقد غزا”(2)، وقال: “من جهّز غازياً في سبيل الله حتّى يستقِلّ، كان له مثل أجره، حتّى يموت أو يرجع”(3)، وقال: “من أظل رأس غاز، أظله الله يوم القيامة، ومن جهز غازيا، حتى يستقل بجهازه، فله مثل أجره”(4). فعلم رضي الله عنه بعد سماعه لهذه الأحاديث أن الإنفاق في تجهيز المجاهدين حتى يستقلوا هو أفضل الإنفاق وذروة سنامه؛ لأن المنفق فيه ينال أجر الغازي في سبيل الله، حتى يستشهد أو يرجع، وهذا الأجر لا يعدله أي أجر في البر والإنفاق، ثم لما كانت غزوة تبوك حضّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على الصّدقات فقال :”من جهّز جيش العسرة غفر الله له” فجاء الصحابة بصدقات كثيرة، فكان أول من جاء أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، جاء بماله كله أربعة آلاف درهم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلّم: «هل أبقيت لأهلك شيئا؟» فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، وجاء عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بنصف ماله، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلّم: «هل أبقيت لأهلك شيئا؟» قال: نعم مثل ما جئت به، وتصدق بعض الصحابة بجزء من أموالهم(5)، وكانت تلك فرصة عثمان رضي الله عنه ليحظى بأجر التجهيز فاغتنمها أيما اغتنام، فجهّز عثمان بن عفان، رضي الله عنه، نصف ذلك الجيش وبلغ عدد الجيش ثلاثين ألفا، حتى إنه كان يقال: ما بقيت لهم حاجة حتى كفاهم شُنُق(6) أسقيتهم(7)، وقد روى الأحنف بن قيس، قال: سمعت عثمان رضي الله عنه، يقول لسعد بن أبي وقاص، وعلي، والزبير، وطلحة رضي الله عنهم: أنشدكم بالله هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جهز جيش العسرة غفر الله له»، فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا؟ قالوا: اللهم نعم(8). فسمّي رضي الله عنه مجهّز جيش العسرة، وجعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو لعثمان بقوله: «اللهمّ ارض عن عثمان، فإنّي عنه راض»(9). وقد أنفق نفقة عظيمة، جمع فيها بين الذهب والبعير والخيل المجهز بكل ما يحتاج إليه المجاهد، فقد أخرج أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، قال فصبها في حِجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول: “ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم، يرددها مرارا”(10)، وروى الزهري “أن عثمان بن عفان رضي الله عنه حمل في غزوة تبوك على تسعمائة بعير وأربعين بعيرا ثم جاء بستين فرسا فأتم بها الألف”(11)، فقد قدم ألف دينار من الذهب وألفا من البعير والخيل حين ضاقت الأرض على الصحابة، وقلّت الموارد، وأقبل الروم بجيوشهم.

وإذا تأملنا في فقه التجهيز عند عثمان رضي الله عنه وجدناه يحرص كل الحرص على التجهيز التام الذي يستقل به الغازي فلا يحتاج بعد ذلك إلى شيء، فقد كفى المجاهدين كل شيء حتى الخيوط التي تربط بها أسقيتهم، وهذا يدل على فهمه العميق وتطبيقه الدقيق لما ورد في الحديث في فضل تجهيز الغازي حتى يستقل، وذلك كي ينال أجر التجهيز؛ لأن الوعد المذكور مرتب على تمام التجهيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى