مقالاتمقالات الرأي

فهمنا الوطنية … من وحي ميثاق جمعية الإحياء والتجديد

فهمنا الوطنية … من وحي ميثاق جمعية الإحياء والتجديد

أ. فرحات الهوني

كثر جدل أبناء الوطن الواحد حول مفهوم الوطنية، وكثرت المناكفات والتراشق بالاتهامات، بل وصل للاعتداءات المسلحة، التي يتخذ البعض شعار الوطنية مطية لتحقيق أغراضهم ومصالحهم الشخصية بها، وبتخوين المخالفين، وللقفز على المناصب والثراء السريع، فالوطنية ليست أقولاً تلوكها الألسن ولا شعارات جوفاء بهتافات التهريج.
فقد جاء في تعريف مفهوم الوطنيّة: أنها ذلك الانتماء العاطفيّ والوجدانيّ الذي يحمله الإنسان في قلبه تجاه وطنه، ويعبّر عنه بأشكال مختلفة من السّلوك الإنساني، وما يصنع هذا الإحساس الوجداني هو ميلاد النّاس في هذه الأرض، ونشأتهم فيها، فالوطنية إذًا هي حب الوطن، والمحافظة عليه، والعمل من أجل ازدهاره.
يقول الشيخ محمد الغزالي: “والبشر يألفون أرضهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحشًا، وحب الوطن غريزة متأصّلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجم.
ومن هذا المنطلق أكدت جمعية الإحياء والتجديد في ميثاقها مما يؤكد فهمها العميق لمدلولات معنى الوطنية ومنطلقاتها والأسس التي تتحقق بها، حيث تعتبر ابتداء كما جاء في ميثاقها أن “الأخوة في الله تعالى هي الركيزة الأولى في بناء المجتمع المسلم، فهي، تعلو على العرق، واللون، والحسب والنسب”.
وجاء أيضاً “تعتقد أن رابطة الأخوة في الله رابطة جامعة لكل أبناء الوطن، تسمو فوق جميع الروابط، فهي مبدأ ثابت يكفل التعاون على البر والتقوى، ويضمن الإسهام المجتمعي في النهضة والعمران”
إذا فهي تقوية الرابطة بين أفراد الوطن الواحد، وإرشادهم إلى طريق استخدام هذه التقوية في مصالحهم مصلحة وطنهم، ويرفض مفهوم الوطنية إذا أريد به تقسيم الأمة طوائف متناحرة، متشيعة لمناهج فاسدة، تفسر وفق مصالح شخصية وتسعى لتمزيق النسيج الاجتماعي الذي يستغل من قبل العدو.
وهنا تنويه لابد من إيضاحه، حيث يظن بعض النّاس إلى وجود تعارضٍ بين الوطنيّة والإسلام، ولا شكّ أنّ هذا الظنّ أو الاعتقاد عائدٌ إلى ما علق بأذهان النّاس من تفسيراتٍ خاطئة لمفهوم الوطنيّة وما يتعلّق بها من مظاهر وتعبيرات، إلا أنّ دين الإسلام الحنيف لا تتناقض قِيَمُه مع تلك الفطرة الإنسانيّة، والمشاعر الوجدانيّة التي يحملها الإنسان تجاه وطنه، والإيهام بوجود تناقض بين مفهوم المواطنة الطبيعي ودين الإسلام أغلوطة لا يقبلها الشرع.
وإن كنا نذهب أبعد من ذلك في أن وجه الخلاف بيننا وبين أدعياء الوطنية حيث أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وطني عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم، وقضاياهم قضايانا.
إذا فمفهومنا للوطنية يكون الوطن أولًا… ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى، ونعتقد أنه ليس في العالم نظام يمد الأمة الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر كما يمد الإسلام بذلك كله أممه الناهضة.
فكل مسلم مفروض عليه أن يسد الثغرة التي هو عليها وأن يخدم الوطن الذي نشأ فيه، ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية وأعظمهم نفعًا لمواطنيه لأن ذلك فرض إلهي.
والاجتماع على مفهوم الوطنية لا يتأتى إلا بترسيخ قيم وأسس ولمنطلقات نتفق عليها مع جميع القوى الوطنية، سواء أشخاص أو كيان يهمهم الوطن وبناء دولة لا مزيدات فيها ولا إقصاء لأحد، فمن هذه القيم:
أولاً: قيمة المساواة: التي تنعكس في العديد من الحقوق مثل حق التعليم، والعمل، والمعاملة المتساوية أمام القانون والقضاء، واللجوء إلى الأساليب والأدوات القانونية لمواجهة أي تجاوزات، وقد جاء في ميثاق الجمعية “نشر ثقافة الحوار والتّسامح وحقّ الاختلاف، والاعتراف بالتّنوع، والدّعوة إلى التّعاون على الوصول إلى الحقيقة، وترجيح مصلحة الوطن وعمارته، بعيدًا عن داعية التّشكيك، والاحتكام للظنون والتّعصب.
والاختلاف يتجاوز كونه حقًّا من حقوق الإنسان إلى حيث هو سنّة إلهيّة كونيّة مطردة لا تتبدّل، ولكلّ مجتهد أجره.
إنّ نبذ ثقافة التّعصب، والمراء، والتّنازع، تُجفّف منابع التّباغض، وتدفع مبررات القطيعة والإقصاء، والإنكار المتبادل، وترسخ قواعد التّواصل الحيّ المثمر الّذي يحقّق الاستقرار ويضمن الوحدة، بين أبناء الوطن الواحد.”
ثانيًا: قيمة الحرية: التي تنعكس في العديد من الحقوق مثل حرية وممارسة الشعائر الدينية، وحرية التنقل داخل الوطن، وحق الحديث والمناقشة بحرية، وحرية التأييد أو الاحتجاج على قضية أو موقف سياسة ما، وأكد ميثاق الجمعية أن “الحريّة التي نتمسك بها، وندعو أبناء الوطن إليها، هي حرية الحقوق المشروعة، التي يكفلها الدين، ويضمنها الدستور في إعلان الرأي، والتفكير الحر المبدع، والنّقد الصّريح، والتّعاون على المعروف، والدّعوة إلى الإصلاح والعمران، والحفاظ على الهّويّة، وصون الثّوابت الوطنيّة”
ثالثًا: قيمة المشاركة: المشاركات السياسية سواء في الانتخابات أو إدارة الدولة، كذلك تتضمن تشكيل الجمعيات أو أي تنظيمات تعمل لخدمة المجتمع، ومساهمتها في الإصلاح، والترشيح في الانتخابات العامة بكافة أشكالها، دون إقصاء.
جاء في ميثاق الجمعية، “أن الجمعية منفتحة على كافة فئات المجتمع، تتطلع إلى الإسهام مع أبناء الوطن في معركة الوعي والإصلاح، والبعث الحضاري…. ولأحد أن يستبدّ فيما كان مشتركا بين النّاس بتقريره برأيه، ولا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا في كنف الحريّة وسلطان العدل، فهي منهج تضامنيّ شامل، يدفع النّاس إلى التّكافل، والعمل الطوعي المبدع في ساحات الفكر، ومواطن الرأي وميادين العمل”.
ويؤكد ميثاق الجمعية أن جمعية “الإحياء والتجديد” أنها “منفتحة على شرائح المجتمع اللّيبيّ كلّها في برامجها ومناشطها وعضويتها، وترحب بالشّراكة والتّعاون مع المؤسسات العاملة في الوطن كلّها، فالعمل في المشتركات لمصلحة الوطن أوسع وأرحب من خلاف جزئي يجرّ إلى تدابر وتنافر، أو نظر اجتهادي يدفع إلى قطيعة وتخاصم”.
رابعا: المسؤولية الاجتماعية: التي تتضمن العديد من الواجبات من أداء العمل بكفاءة، والمحافظة على المال العام، واحترام القانون، واحترام رجال القانون، واحترم حرية وخصوصية الآخرين، والحوار هو الطريق الأمثل، والحرص على وحدة الوطن وأبناء الوطن.
جاء في الميثاق: “نعتقد أنّ التّعاون في نشر الوعي الحضاريّ، والشّراكة في بناء الوطن وعمرانه، لا يتحقق إلا وفق قواعد للإصلاح متفق عليها، وأسس للبناء لا جدال حولها، لتتسع معها مساحات الوسطيّة والاعتدال وليتحقق للوطن نهضته…ونعدّ المكونات الثّقافيّة المتعددة، جزءًا أصيلا تزدان بها فسيفساء الوطن، وعامل نهوض وارتقاء، ومقوم ووحدة واستقرار للمجتمع اللّيبيّ، نؤمن أنّ الحوار بين مكوّنات المجتمع اللّيبيّ جميعها واجب ديني وحقّ وطني، وضرورة ناجزة، لعمارة الوطن ونهضته، وذلك من خلال تأكيد الجوامع المشتركة وتوطيدها، ودعم الحقوق العادلة والدّفاع عنها؛ لحماية اللّحمة “الوطنيّة” وشدّ أواصرها.
نطمح للمحافظة على وحدة الوطن، والتعاون بين شركاء الوطن، ولإيجاد حكومة تقوم في هذا الوطن الحر على أسس ديمقراطية حرة، تعمل بأحكام الإسلام، وتطبق نظامه، وتؤدي مهمتها كخادم للأمة وعامل على مصلحتها، تلتزم بحراسة حدود الوطن، وصيانة الأمن، وإنفاذ القانون، ونشر التعليم وتطويره، وإعداد القوة العادلة، وحفظ الصحة، ورعاية المنافع العامة، وتنمية الثروة، وحراسة المال، وتقوية الأخلاق، وتحقيق العدالة الاجتماعية، حتى يشعر كل أبنائها بأنه قد أصبح لهم في هذا الوطن ما يعنيهم أمره، ويهمهم شأنه.
وبفهمنا لمعنى الوطنية بعيدا عن المزايدات والتشويه، وأخذنا لهذا الميثاق بقناعة راسخة، تجد أننا من أشد الناس إخلاصًا لوطنهم، وتفانيًا في خدمته، واحترامًا لكل من يعمل لها مخلصًا، إلا أنه يقرر أن هناك فروقًا بين الوطنية كما نفهمها، وبين دعاة الوطنية المجردة، الذين لا يرون العمل للوطن إلا عن طريق التقليد أو الظهور أو المباهاة أو المنافع الشخصية.
ما أحوجَنا إلى هذا الحب لبلادنا التي أنعم الله علينا بها.. نقدِّس مكانتها، ونحفظ حرماتها، ونُصلح من شأنها.. نرفع عمرانها، ونُعلي بنيانها.. نزرع الأرض البوار، ونستثمر البحار والصحاري.. نُصلح كل ما اعوجَّ من شؤونها، ونقيم الحق والعدل، ونضع الميزان ونُعلي من كرامة الإنسان، وهذا يتطلب منا جهدًا وجهادًا، وصبرًا واحتسابًا، وقبل ذلك حب عميق لما أنعم الله علينا من بلادٍ كريمة “بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى