فهم الدعوة إلى الله.. من وحي ميثاق جمعية الإحياء والتجديد
أ. فرحات الهوني
أجمع العلماء من سلف هذه الأمة وخلفها بأن الدعوة إلى الله هي أشرف الوظائف وأرفعها شأنناً، ولا يوجد وظيفة تقرب العباد إلى الله أنفع من هذه الوظيفة، ولهذا شرف الله بها رسله على مر الأزمنة.
فهي وظيفة رسل الله جميعاً، ومن أجلها بعثهم الله تعالى إلى الناس، فكلهم بلا استثناء دعوا أقوامهم ومن أرسلوا إليهم إلى الإيمان بالله، وإفراده بالعبادة، على النحو، الذي شرعه لهم. وهكذا جميع رسل الله دعوا إلى الله، إلى عبادته وحده والتبرؤ من عبادة سواه، قال تعالى: “ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ” (النحل: 36 ) فرسل الله هم الدعاة إلى الله، وقد اختارهم الله لحمل دعوته وتبليغها إلى الناس”.
وقد عرف ابن تيمية رحمه الله الدعوة فقال: “الدعوة إلى الله: هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا“ والذي يقوم بأمر الدعوة ويحمل عبثها ليبلغها إلى الناس هو الذي يطلق عليه: “الداعي أو “الداعية”.
وقد وردت في القرآن آيات كثيرة توجب الدعوة إلى الله، منها ما تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، فتدخل أمته في الخطاب تبعا له، ومنها ما خاطبت الأمة مباشرة. فمن الآيات التي تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ” وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ” (الحج: 67 ). وقوله تعالى: “ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ” (القصص: 87)
وهذه الآيات يدخل فيها المسلمون جميعا، لأن الأصل في خطاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم دخول أمته فيه إلا ما استثني. وليس من هذا المستثنى أمر الله تبارك وتعالى له بالدعوة إليه، وكما أوجب الله على نبيه الكريم أن يقوم فينذر ويدعو إلى الله، فكذلك الدعوة إلى الله واجبة على من اتبعه، وهم أمته. وهذا تشريف من الله تعالى للأمة أن أشركها مع رسوله الكريم في وظيفة الدعوة إليه.
تأمل في قول الصحابي الحليل ربعي بن عامر ـ رضي الله عنه ـ وفهمه العميق لهذه المهمة حيث قال لكسرى: “اللّه ابتعثنا لنخرج مَنْ شاء من عبادة العباد إلى عبادة اللّه، ومِنْ ضيق الدنيا إلى سَعَتها، ومن جَور الأديان إلى عَدْل الإِسلام”.
دقق في كلمته (ابتعثنا) فهو مناط بهذه المهمة، ومكلف بها بدون تردد ولا تلكأ، حمل لواء الدعوة من بعد أن وصلته وسار بها قدماً وكأنه مكلف من الله سبحانه وتعالى لتبليغها…وهذه حقيقية وفهم لدينه.
وعلى هذا فكل مسلم يدعو إلى الله بالقدر الذي يعلمه واما من كان غير قادر أو عاجزعليهم أن يعينوا الدعاة إلى الله الذين يأمرون بالمعروف ويزيدوا قوتهم، ويكثروا سوادهم، إلى الدرجة التي يكتسبون فيها الهيبة والتأثير الكافي لامتناع الطائفة العاصية من أفراد الأمة عن عصيانها ومخالفتها للشريعة. ومن يستطلع حالة المسلمين اليوم يجد أن الجهود المبذولة في الدعوة إلى الله، لا زالت أقل من المقدار المطلوب لامتناع من يرتكب المعاصي منهم، والوقوف ناكراً على آراء العقول والأهواء والأفكار المنحرفة عن منهج الله، ومن ثم فإن لا يسع المسلم اليوم أن يقعد عن الدعوة إلى الله، ونصرة الدعاة، والاشتراك معهم في جهودهم لاقتلاع السوء والمعاصي، وأهل السوء والمعاصي، وإحلال الخير، وأهل الخير والتوحيد محل ذلك.
ولهذا أخذت جمعية الإحياء والتجديد على عاتقها هذا الأمر الإلهي واقتداء برسولهم الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ السير في طريق الدعوة إلى الله، حيث جاء في ميثاق الجمعية،محور مبادئ ومنطلقات الفقرة (4) واجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، يقول النص:
“إنّ خيريّة المجتمعات المسلمة إنّما تتحقق في مدى التزامها بالبلاغ عن لله، والدّعوة إلىتعاليم دينه بالمعروف، وهي الرّسالة الّتي ميّز لله بها المجتمع المسلم عن غيره منالمجتمعات، وكلّفه أن يحملها في كلّ عصر.
“كُنْتُمْ خَيرْ أمَّةٍ أخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه
(آل عمران 110).
إنّ الدّعوة إلى الالتزام بقيم الاسام وتعاليمه ليست مسؤولية فئة معلومة من النّاس، بل هي مسؤولية ينهض بها الجميع رجالاً ونساءً، منظمات ومؤسسات، حكاما ومحكومين.
قال تعالى “قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِ أدْعُو إِلَى الَّلِه عَٰلىَ بَصِرَةٍ أنَا وَمَنِ اتَّبَعَيِ وَسُبْحَانَ الَّلهِ وَمَا أنَا مِنَ المشركين“ (يوسف.108)، قال الكلبي: “حق على كل من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه”.
وقال عليه الصّلاة والسّلام: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان” (رواه مسلم).
وجمعية “الإحياء والتجديد ” تلتزم بالقواعد الشّرعّية في الأمر بالمعروف
والنّهي عن المنكر، تعتبر المآلات وتنظر إليها، وتأخذ بأسباب العلم والمعرفة،
وتعدّها شرطاً ضرورياً في القيام بواجب الدعوة إلى لله.
إن التقاعس عن القيام بواجب الأمر بالمعروف والّنهي عن المنكر، والتّفريط في السّعي إلى الإصلاح في كل مجالات الحياة، مؤذن بخراب العمران، وفساد الأوطان، قال تعالى :”ظهَرَ الْفَسادُ فى الْبرِّ وَ الْبحرِ بِمَا كَسبَت أيْدِى النّاسِ لِيذِيقَهُم بَعْض الِّذي عَمِلُوا لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ“ (الروم 41).
وعن حذيفة عن النبي صلى لله عليه وسلم قال: )والذي نفسي بيده لتأمُرنّ
بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشكن لله -عزّ وجلّ- أن يبعث عليكم عذاباً
من عنده ثمّ تدعونه فا يستجاب لك ( رواه الترمذي).
والدّعوة إلى لله سلوك عمليّ في الحياة العريضة لعمارتها بما يُصلح أحوال
النّاس، قبل أن تكون موعظة بليغة، تصدح بها حناجر الدّعاة على أعواد المنابر،
وفي حلق التذكير، ومقامات الوعظ، يلحظه المدعو فيكون له دعوة صادقة
للامتثال، ودافعا مخلصا يحمله على الاقتداء.
قال تعالى”: وَمَنْ حْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَ إِلى الَّلهِ وَعَمِلَ صَالحاً وَقَالَ إِنَّيِ مِنَ
المْسُلمِيِنَ” (فصلت 33).”
فكان منطلق هذا الفهم أن الدعوة إلى الله مسؤولية كل الأمة، وحاجة كل فرد من الأمة، فبها تحصل الهداية، ويزيد الإيمان، ويزيد المؤمنون، ولابد من جهد، بالحسنى حين يكون الضالون أفراداً يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة، وبكل وسيلة مشروعة وممكنة.
يقول الدكتور عبدالملك القاسم: “الدعوة إلى الله، زيادة في الحسنات، ورِفعة في الدرجات، وإذا انقطعت أُجور العباد بموتهم، فأجر الداعية مستمر ما استمر نفع دعوته، قال صلى الله عليه وسلم: “من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله“ مسلم.
لقد كان السلف رضي الله عنهم أفرح ما يكونون عند العمل للدعوة وهداية أحد على أيديهم، كان الشيخ عبدالقادر الكيلاني يقول: “سبحان من ألقى في قلبي نصح الخلق وجعله أكبر همي”.
ويقول الحسن البصري ـ رضي الله عنه ـ فقام الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد”.
كذلك نذكر بأن الدعوة إلى الله مثلها مثل بقية الطاعات التي يتقرب بها المسلم إلى الله لايشترط فيها الإذن من أحد وهذا ما عليه سلفنا الصالح يقول الأمام أبو حامد الغزالي: ” “استمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عنالتفويض، بل كل من أمر بمعروف، فإن كان الوالي راضياً به فذاك، وإن كان ساخطاً لهفسخطه له منكر يجب الإنكار عليه، فكيف يحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه؟“
وجمعية الإحياء والتجديد وهي تسير في أتباع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تنتهج منهج التعاون والشراكة مع المؤسسات والأفراد من أجل في إحياء فقه الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق وسائل وبرامج ومناشط مشتركة لتحقق الهدف المرجو وهو نشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، والعمل الجماعي ليس ببدع في نهج سلفنا الصالح، كما ذكر الأستاذ محمد أحمد الراشد في كتابه المنطلق حيث قال: “وقد كان السلف الصالح من أجل حرصهم على القيام بهذه وظيفة يأمرون بالمعروف في رجال معهم وهذا المعني فقهه الصحابة والسلف الصالح ووعوه وعياً كاملاً، فلم يكتفوا بالدعوة الفردية، وإنما أسسوا الجماعات للدعوة إلى الله وعملوا عملاً جماعياً، منهم الصحابي هشام بن حكيم بن حزام القرشي رضي الله عنه، قال الزهري: “كان يأمر بالمعروف في رجال معه”. فانظر قول الزهري: في رجال معه، فهو قد كون جماعة آمرة، ودلل على أن الأمر بالمعروف لا بد له من عصبة، ومتى كانت عصبة كانت دعوة.
ثم ما فتئ أفاضل العلماء يتخذون لهم جماعة وأصحابا للقيام مجتمعين بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما كان أمر عبد الرحيم بن محمد العلثي البغدادي الفقيه المحدث الزاهد، قالوا: كان شيخاً جليلاً، عالماً، عارفاً، من أجل شيوخ الحديث، ملتزما بالسنة، زاهداً ذا فضل وورع، وأدب وعلم. وكان له أتباع وأصحاب يقولون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويشترط على رأس هذه الجماعة أن يتحرى الصالح من الرجال، المؤمن الآكل للحلال، ليكون في إعانته توفيق من االله وأثر، وإلا فإن كان من المخلطين غير المتحرين لشروط الشرع في معاملاته وسلوكه ومعيشته رفع االله عن عمله البركة.“وهنا ما نوه إليه الأستاذ عبدالوهاب عزام ـ رحمه الله – حيث ذكر في مذكراته: بعد أنرحمه الله معظم بلاد الإسلام، ودرس واقع المسلمين عن قرب، فما خرج بغير هذه النتيجة، فعاد ينادي الخيرين أن: “لا يخدعنكم الفساد الظاهر والشر المستشري، ولا يهولنكم ذكر فلان وفلان من المفسدين، ففي الأمة أخيار أكثر ممن تعدون من الأشرار، ولكنها راية رفعت للشر فأوى إليها أشرارها، وهرع نحوها أنصارها، ونفر منها الأخيار فلم ينحازوا إليها، ولم نسمع أصواتهم حولها، ولو رفعت للخير راية لانحاز إليها الأخيار وحفوا بها وسكنت أمة الأشرار وقلجمعهم وخفت ذكرهم”.
وهذه الرية لا بد من تكاثف جهود بين المؤسسات الدعوية والتنسيق التكاملي بينها، وهو من باب البر والتقوى الذي حثنا عليه ربنا سبحانه وتعالى….ولا عذر لنا.