فهم المكونات الثقافية.. من وحي ميثاق جمعية الإحياء والتجديد
أ. فرحات الهوني
لا أحد ينكر أن الاختلاف موجود منذ بَدء الخليقة، وأنه سنة كونية تتلازم مع الحياة ما دامت السماوات والأرض، وهي سمة بارزة في البشر ومناط أغلب مشاكلهم الفكرية والدينية والسياسية والثقافية، لاختلاف مشاربهم التي استقوا منها مناهجهم وأفكارهم، فلا يُمكن جمعُ البشر جميعًا على كلمة واحدة أو رأي واحد، ولذلك قال العليم الخبير: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ” (هود: 118، 119)، قال ابن كثير: “أي ولا يزال الخلفُ بين الناس في أديانهم واعتقادات مِللهم ونِحلهم، ومناهجهم وآرائهم.
وهذا الاختلاف لا يمنع التعايش والتسامح والتآلف بين الناس فالإسلام يقر ذلك بل يحث عليه كتابًا وسنة، ولا سيما بين أبناء القطر الواحد الذين يجمعهم رحم الإسلام ورحم الوطن.
ونحن في بلادنا الحبيبة تتعايش فيها المكونات الثقافية (ولا نريد تسميتها الدينية لأنها بفضل الله كلها مسلمة ولو صنف على أنه اختلاف فهو اختلاف في مسائل لا يخرج أحد منها من دائرة الإسلام)، وهذه المكونات تتعايش منذ مئات السنين، ساعية لتعزيز وترسيخ قيم التلاحم والوحدة بين كافة أطياف المجتمع، مستلهمة قصة ومسيرة الكفاح الطويل لأجدادنا للمّ الشمل وتوحيد هذا الوطن في جسد واحد، وذلك بتعزيز قيم التلاحم الوطني انطلاقا من كونه إحدى الركائز والمقوّمات الوطنيّة التي تجمع وتربط بين أبناء الوطن الواحد، وتزيد تماسكهم وتعاضدهم، وترسي دعائم التعايش السلمي بينهم، مما يمنحهم القّوة لمواجهة الخلافات والاختلافات، ومظاهر التطرف، فتسود بينهم أجواء التسامح، والتكاتف، والتآخي، والتعايش، ويتحقق لهم التقدم والتطور والنمو الشامل المتكامل في مختلف مجالات الحياة الذي نرجوه.
وجمعية الإحياء والتجديد ومنذ انطلاقتها وحتى اليوم، أخذت على عاتقها تفعيل رؤيتها الحوارية، والسعي جاهدةً كواجب وطني ومسؤولية مجتمعية لغرس وتطوير قيم المواطنة وحب الوطن وتعزيز الانتماء إليه، وجعل توحيد صفوف أبنائه وتماسكهم وتعاضدهم وتلاحمهم وحماية نسيجهم المجتمعي، مسلمة من مسلمات تطوره وتقدمه، انطلاقا مما يولده التلاحم لدى الشخص من شعور بالانتماء نحو وطنه وأبناء مجتمعه، وبالتالي يدفعه لأن يخلص في عمله ويطوّر من نفسه، وبالتالي ينهض بوطنه.
ومن هذا المنطلق الرائد ضمنت جمعية الإحياء والتجديد في ميثاقها في محور القضايا الحيوية الفقرة رقم (6):
“المكونات الثقافية
• نعدّ المكونات الثّقافيّة المتعددة، جزءًا أصيلاً تزدان بها فسيفساء الوطن، وعامل نهوض وارتقاء، ومقوم وحدة واستقرار للمجتمع اللّيبيّ، قال تعالى: “وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِـمِينَ” (الروم 22)
• نعتقد أنّ الهُويّة الإسلاميّة والتّاريخ الوطني المشترك، هما أساس انتماء المكونات الثّقافيّة المتعددة كلّها، ونعتقد أنّ هذا الأساس هو الضّامن لاستقرار الوطن ونهوضه، فالإسلام لم يكن دين العرب وحدهم، أو من أجل قضيّة عرقية، وتاريخنا الوطني لم يكن ديوانَ مُكَوِّنٍ واحد يستأثر به دون آخر، ويفاخر به، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات 13)
• نؤمن أنّ الحوار بين مكوّنات المجتمع اللّيبيّ جميعها واجب ديني وحقّ وطني، وضرورة ناجزة، لعمارة الوطن ونهضته، وذلك من خلال تأكيد الجوامع المشتركة وتوطيدها، ودعم الحقوق العادلة والدّفاع عنها؛ لحماية اللّحمة الوطنيّة وشدّ أواصرها.”
وما جاء في ميثاق جمعية الإحياء والتجديد هو ترشيد المجتمع والنخب على تنظيم وإقامة الفعاليات المختلفة التي تجسّد وتترجم التلاحم والوحدة ومواجهة مهدداتها والمحافظة على النسيج الوطني في إطار الثوابت الوطنية وتعميقها لتتشابك الثقافات في بلادنا لتشكل لوحة فسيفسائية زاخرة بالتنوع، ويجيب عن التساؤل الذي يقول: كيفية تحويل هذا التنوع إلى عامل قوة ووحدة، بدلًا من أن يكون سببًا للفرقة والانقسام؟.
وكلنا يعلم أن وصول الإسلام إلى المنطقة أحد أبرز عوامل هذا الاندماج، حيث وحّد الدين الإسلامي بين العرب والأمازيغ تحت مظلة مشتركة، تحترم فيه الخصوصيات الثقافية لجميع المكونات المجتمعية، وتعزز التعايش السلمي بينها، بمدارسه الفقهية وموروثاته الثقافية، وهُويتهم اللغوية.
فعلى الرغم من الرصيد الثقافي والتراث الحضاري الثري الذي تحظى به ليبيا على مدار تاريخها من خلال مكوناته، إلا أنه هناك من النعرات القومية والعرقية والجهوية والمسالك محسوبة تطفلاً على الدين تذكي نار الخلاف، وتثير الفتن بين أبناء الوطن من خلال تكريس ثقافة عقائدية مرتبطة بمشاريع سياسية مدلسة باسم الدين، ومستوردة من خارج الوطن، حتى وجدنا أنفسنا قد شرَدنا كثيرًا عن الجادة، وأصبح البعض يهاجم على أفكار البعض الآخر، ويَحجمها تارة، ويكفره تارة أخرى، وتاهتْ بنا سبل التعايش والتسامح والحوار، فسلَكنا دروبَ الفرقة المنبوذة، حتى تشدَّد البعض وتحيَّز وتعصَّب، فغاب الحوار القائم على النقاش، وقَبول الاختلافات الفكرية والفقهية الإسلامية وغيرها، بروح أخوية عالية، كما يريد الإسلام الذي كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم.