مقالاتمقالات تربوية

فهم موانع التكفير.. من وحي ميثاق جمعية الإحياء والتجديد

أ. فرحات الهوني
إن تكفير المسلم من أخطر الأحكام وأعظمها، وذلك لما يترتب عليه من الآثار الخطيرة، كإباحة دم المسلم وماله، وتطليق زوجته، وقطع التوارث بينه وبين أقربائه، عزله عن مجتمعه، ولذلك جاءت الأحكام الشرعية بالتحذير من التسرع في إطلاق الكفر على المسلم.
ويعتبر الشيخ العلامة الصادق الغرياني أن التكفير من الغلو في الدين حيث قال في كتابه الغلو في الدين: “إن هناك نوعًا من الغلو المقابل، يقوم على التشدد، والتكفير يسرف أصحابه في تضليل الناس وتكفيرهم”
ويقول العالم الفقيه يحيى علي معمر -رحمه الله- وهو من علماء المذهب الإباضي في كتابه التربوي (سمر الأسرة المسلمة) أيضًا: “إن الإنسان الذي يلم بالمعصية أو يتهاون بالطاعة فهو كافر كفر نعمة ولا يحكم عليه بالشرك.” ويضيف “ليس أكبر من أن تحكم على مسلم بالشرك فتخرجه من دين الإسلام وهو يؤمن بالله ورسوله”
ولما كانت مسألة التكفير ليست بالأمر الهين، حذر الشرع في إطلاقها تحذيرًا شديدًا فأوجب التثبت وجعلها من صميم فتوى العلماء المشهود لهم بعلو القامة في العلم والورع، أو لا يكون إلا عبر قضاء، فالقاضي هو المخول بإصدار هذا الحكم على شخص صدر منه ما يوجب تكفيره بعد استجوابه وتحصيل الأدلة.
فتكفير الأعيان حكم قضائي وليس عملًا عشوائيًا، حتى لا يتهم مسلم بكفر، وحتى لا تستباح أموال الناس وأعراضهم بمجرد الظن والهوى، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا} سورة النساء-الآية (94)، فحذرهم من التسرع في التكفير، وأمرهم بالتثبت.
وقد أجمل المنهج الفكري الوسطي موضوع التكفير مستندا على ما ورد في الكتاب والسنة وما نقل عن السلف الصالح وأقوال العلماء وجعلها من فهم الإسلام تضبط الفرد عقائديا وفكريا حيث قيد ذلك بقولهم: “ولا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض ـ برأي أو بمعصية ـ إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذّب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر.”
ومن هذه المنهجية الوسطية جاء في ميثاق جمعية الإحياء والتجديد: فصل المبادئ والمنطلقات – فقرة (11) والتي تنص:
“نرفض إطلاق أحكام التكفير على مَنْ أقرّ بالشهادتين وعمل بمقتضاهما:
إن التكفير بدعة منكرة، وهو من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى استحلال الدماء المعصومة، وإثارة الفتن، وتمزيق نسيج المجتمع، وتهديد استقراره ووحدته.
عن أبي قلابة أن ثابت بن الضحاك – وكان من أصحاب الشجرة- حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ومن لعن مؤمنا فهو كقتله، ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله) رواه البخاري.
وجمعية “الإحياء والتجديد” تعتقد أنّ التكفير حكم قضائي، لا يجوز أن يصدر في الندوات والمؤتمرات والحوارات، وعلى منابر المساجد وكراسي الوعظ، ووسائل الإعلام؛ ذلك أنّ التكفير لا بدّ فيه من تحرّي البيّنات، وتحقق الشروط وانتفاء الموانع، فهو اختصاص أصيل للسلطة القضائية في الدولة، لا يحق لأحد – مهما بلغت منزلته العلمية – أن يفتات عليها.
إن مهمة الدّعاة إلى الله؛ أفرادًا ومؤسسات، هي تقديم العون إلى المدعوين، واستنقاذهم من ظلمات المعصية إلى أنوار الطاعة، ومن غياهب الضلال إلى جادة الهدى والاستقامة، ومن كدر الغفلة عن الله إلى صفاء اليقظة والوصل به، وليست بإطلاق أحكام التكفير، وأوصاف التفسيق والرمي بالبدعة، والوصم بالضلالة، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل 125).”
ونلاحظ فيما سبق حسن الظن بكل من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وعمل بمقتضى هذه الشهادة وهؤلاء ينطبق عليهم موانع التكفير في أعمالهم وأقوالهم في حالة المعصية التي ذكر العلماء الأفاضل شروطها ومحدداتها منها:
– الجهل: وهو خلو النفس من العلم، فيقول قولاً أو يعتقد اعتقادًا غير عالم بحرمته، كمن يعتقد أن الصلاة غير واجبة عليه
– الخطأ: وهو أن يقصد بفعله شيئًا فيصادف فعله غيرَ ما قصد، كمن يريد أن يصطاد حيوانًا فيصيب إنساناً، أو كمن يريد رمي كتاب كفر فيرمي كتاب الله جلَّ وعلا، والأدلة على العذر بالخطأ كثيرة منها قوله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} سورة الأحزاب-الآية (5)، ومن الأحاديث المشهورة في العذر بالخطأ، قوله: صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
– الإكراه: وهو إلزام الغير بما لا يريد، ففي هذه الحالة يكون المكرَه في حلٍّ مما يفعله أو يقوله تلبية لرغبة المكرِه دفعا للأذى عن نفسه أو أهله، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده ولطفه بهم حيث لم يكلفهم ما يشق عليهم، قال تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} سورة النحل-الآية (106).
– التأويل: وهذا المانع من التكفير إنما يختص بأهل الاجتهاد دون غيرهم من المتقولين على الله بالجهل والهوى، وذلك أن المجتهد قد يترك مقتضى نص لنص آخر يراه أقوى منه والتأويل المعتبر في هذا المقام هو ما كان له وجه في الشرع واللغة العربية، أما إن كان لا يعتمد على شيء من القرائن الشرعية أو اللغوية فهو غير معتبر شرعا كتأويلات الباطنية ونحوهم.
يقول الشيخ علي طنطاوي -رحمه الله- في كتابه تعريف عام بدين الإسلام: “القرآن الكريم هو دستور الإسلام فمن صدق به بأنه من عند الله، وآمن به جملة وتفصيلا سُمي مؤمنًا، والإيمان بهذا المعنى لا يطلع عليه إلا الله؛ لأن البشر لا يشقون قلوب الناس، ولا يعلمون ما فيها، لذلك وجب عليه، أن يعلن هذا الإيمان بالنطق بالشهادتين، هما (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله).
فإن نطق بهما صار مسلمًا أي مواطنًا أصيلاً في دولة الإسلام، ويتمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها المسلمون، وقبل القيام بجميع الأعمال والتكاليف التي يكلفه بها الإسلام.
قد يترك المسلم بعض الواجبات أو أن يأتي بعض الممنوعات وهو معترف بالوجوب والحرمة يبقى مسلمًا، ولكنه يكون مسلمًا عاصيا، أما الإيمان فلا يتجزأ، فلو آمن بتسع وتسعين عقيدة وكفر بواحدة فقط كان كافرًا.
إذا أنكر المسلم بعض المبادئ أي العقائد الأصلية أو شكك فيها أو جحد واجبا مجمعًا على وجوبه أو حرم مجمعًا على حرمته أو أنكر ولو كلمة واحدة من القرآن، فإنه يخرج من الدين ويعتبر مرتدًا تنتزع منه الجنسية الإسلامية.”
وكذلك هناك فرق بين تكفير الفعل وتكفير فاعله، فقد يحكم على عمل بأنه كفر لكننا لا نكفر من صدر عنه هذا العمل الموصوف بالكفر، يقول صلى الله عليه وسلم (النياحة من الكفر)، فعل النياحة كفر لكن صاحبها لا يكفر وهكذا في كثير من الأمثلة.
يقول ابن تيمية: “(قال غير واحد من السلف: كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك)”.
تكفير المسلم على وجه يخرجه من الإسلام خطير جدا، فلا بد من صدور ما يخرجه عن الإسلام قطعًا، كأن لا يأتي قولاً أو عملًا لا يحتمل أي تأويل في كفر صاحبه.
وقد استثنى ما اتفق أهل العلم على تكفيره “إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر.”
فالإقرار بكلمة الكفر متعمدا وعالما بها كـسبّ الدين أو الجلالة والاستهزاء بالشريعة وغيرها؛ يعتبر كفرا وكذلك إنكار معلوم من الدين بالضرورة كأركان الإيمان وقواعد الإسلام والعبادات وإنكار الأحاديث النبوية المتواترة والمجمع على صحتها يدخل صاحبه دائرة الكفر وكذلك تكذيب صريح القرآن، وما يتبعه من التفسيرات والتأويلات باطلة أيضا تشكك في القرآن أو الإنقاص منه أو الزيادة عليه والعمل الذي لا يدل إلا على الكفر كرمي المصحف متعمدا أو مزاولة السحر وغيرها، كل هذا يكفر صاحبه إذا كان عالما مدركا متعمدا مكلفا شرعا.
يقول الشيخ العلامة الصادق الغرياني أيضًا في كتاب الغلو في الدين: “الإنصاف يقتضينا في الحكم على الناس أن تزن أعمالهم بميزان الشرع وبمصطلحات الشرع، ولا تغالي، قال تعالى: {ألا تطغوا في الميزان • وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} سورة الرحمن-الآيات (8 -9).
فمن ترك سنة، لا لوم عليه في عرف الشرع إذا كان غير مستهين بتركها، ومن ترك واجبا فهو مازال مع المؤمنين، والتوبة عليه من ترك واجبة هذا هو الفقه والتبصر، وهذا العدل الذي تحمد عقباه.”
ولا يعني ذكر الموانع آنفا أن نتهيب من تكفير من كفره الله ورسوله لثبوت وصف الكفر في حقه بتوافر شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم، ولكن الواجب هو التثبت، ومعرفة أن وظيفتنا هي أننا كما يقول الإمام حسن الهضيبي: “نحن دعاة لا قضاة”، وقد بين الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه القيم (ظاهرة الغلو في التكفير): “وهذه الكلمة الوجيزة (دعاة لا قضاة) التي أصبحت عنوانًا لكتاب كامل في هذا الموضوع (ظاهرة التكفير) إنما هي تعبير عن منهج إيجابي عملي يجب أن يتضح للعاملين للإسلام والغيورين عليه: إنهم دعاة لا قضاة.
والفرق كبير بين القاضي والداعي: القاضي يجب أن يبحث عن حقيقة الناس وحتى يحكم لهم أو عليهم، ولا بد له من أن يصفهم ويعرف مواقفهم ليقضي لهم بالبراءة أو العقوبة، ثم إن موقف القضاء يجعلنا ننطر للناس على أنهم متهمون والأصل أنهم برآء.
أما الداعي فهو يدعو الجميع، ويبلغ الجميع ويعلّم الجميع، إنه يصدع بكلمة الإسلام يدعو إليها كل الناس، من كان ضالاً فليهتدِ، ومن كان عاصيًا فليتب، ومن كان جاهلًا فليتعلم، ومن كان كافرًا فليسلم.
والداعي لا يعمل على عقوبة المخطئ، بل يعمل على هدايته، ولا يتعقب المرتد ليقتله، بل يتبعه ليرده إلى حظيرة الإسلام.”
في أحد دروس الشيخ محمد الغزالي سأله شاب عن حكم تارك الصلاة؟ وعلى ما يبدو أن الشاب كان يتوقع ويريد فتوى بتكفير تارك الصلاة، ومن حكمة الشيخ الغزالي ووعيه بدوافع الشاب للسؤال رد عليه بالقول: «حكمه أن تأخذه معك إلى المسجد».
وأحب التنويه بأن كتاب الدكتور يوسف القرضاوي (ظاهرة الغلو في التكفير) هو من أفضل الكتب وأبسطها لغة وفهما لدراسة هذه الظاهرة، حيث ذكر فيه أسباب هذه الظاهرة ونشأتها في هذا العصر وطرق معالجتها وأنواع التكفير وأقوال سلف الأمة فيه، وذلك بأسلوب فقيه مدرك الواقع يعيش التجربة بعيدًا عن التعقيد.
ومن هنا يأتي إبراز دور الفكر الوسطي المعتدل في مواجهة ظاهرة التكفير وتجفيف روافدها، تلك الظاهرة التي كانت حربة في نحور أهل الإسلام، ومازالت تؤتي ثمارها النكدة من تمزيق شمل الأمة، وجعل المسلمين طرائق قددا، كما تسعى أيضًا إلى تبرئة ساحة الفكر الوسطي من تهمة التكفير البغيضة التي نسبها إليهم البعض ظلمًا وزورًا، كما أن أصحاب الفكر الوسطي وعلماءه وقادته وبما لا يدع مجالًا للشك أنهم أبرأ الناس من تكفير المسلمين، وأن نسبتهم إلى التكفير من أبطل الباطل وأجرأ المفتريات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى