عاممقالاتمقالات الرأيمقالات فكرية

فهم نبذ العنف.. من وحي ميثاق جمعية الإحياء والتجديد

 

أ. فرحات الهوني

مما لا شك فيه والذي يؤمن به كل مسلم، أن الإسلام دين تسامح وتعاون وتكافل، وهذا من أخص خصائص الإسلام، وحث عليه كقيمة إنسانية بين الإنسانية عمومًا، والمسلمين خصوصًا، قال تعالى: “يٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”.
فالإسلام قد جاء ليطبق سنة الله في الفطرة، ورأينا من آيات القرآن ما يدعم هذه الفطرة، ويجمع الناس على وحدتهم، واجتماع كلمتهم تحت لوائها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرص الحرص كله على سلامة أمته، وحفظ كيانها، ودوام وئامها، في الكلمة الصادقة، والقدوة الصالحة، فنراه صلوات الله وسلامه عليه يرغب في الألفة، ويحذر من الشقاء والفرقة والاختلاف، فإن الألفة، والمحبة طريق الخير، وإن الشقاق وخيم العواقب، يضعف الأمم القوية.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى من رسوله -صلى الله عليه وسلم- قدوتنا فوصفه: “فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين”، لقد منّ الله برسوله على العالم بما أفاء عليه من العلم والحلم، حتى جعله أزكى عباد الله رحمة، وأوسعهم عاطفة، وأرقهم طبعا، وأرحمهم صدرا.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: “اعلم أن الرفق محمود، ويضاد العنف والحدة، والعنف نتيجة الغضب والفظاظة، والرفق واللين نتيجة حسن الخلق والسلامة، فالرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق.”
ومنذ جاء هذا الدين رافعًا شِعار “لا إكراه في الدّين” لم يُجبَر أيّا من أتباع الديانات الأخرى على الدخول فيه مبينًا أن العقائد لا تغـرس بالإكراه، وإنما بالقناعة أو التربية، وأخبر رسوله -صلى الله عليه وسلم-: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ”، تؤكد هذه الآيات أن الإسلام دين سلام وتسامح، حضّ على كل ما تعنيه الكلمة من الاحترام المتبادل والاعتراف بحقوق وحريات الآخرين.
وهذا ينافي الافتراء واتهام الإسلام بأنه دينٌ إقصائي يدعو للتطرف والعنف والإرهاب، فليست هذه سوى دعوة حاقد أو جاهل، إذ كيف يقرر القرآن الكريم حرية الاعتقاد وعدم إكراه الناس في الدخول للإسلام، وقتالهم في الوقت نفسه؟.
وإن ما قرره علماء المسلمين سلفًا وخلفًا، أن الإسلام قد شرّع القتال في سبيل الله لأهداف محددة منها: رفع الظلم والعدوان عن الدين أو النفس أو الأرض، وردع المعتدين ومنعهم عن الأذى والفساد، أو مواجهتهم حين ينقضون العهود والمواثيق، وهنا نفرق بين إعداد العدة والاستعداد للدفاع عن الأرض والعرض وإرهاب العدو الغاصب ومحتل الوطن، مثل ما يحدث من مقاومة العدو بأرض فلسطين، فالقرآن الکريم يستعمل الإرهاب ضد قوى الشر ولا يستعمله ضد الآمنين من الناس، قال تعالى:”لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَـمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَـمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ” (سورة الممتحنة- آية (8))، فالوارد في القرآن الکريم، إنما هو خاص، يتعلق بالمعتدين، لصدهم عن عدوانهم متى حصل منهم، في قوله تعالى: “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ”.. الآية (سورة الأنفال- آية (60))، فهذا ليس هو إرهابًا عدوانيًّا فالإسلام يأمر المسلمين بوجوب تحصيل القوة، وتوفير أسبابها ومقوماتها، إنما لتکون رادعًا وزاجرًا يرهب کل من تسول له نفسه مباغتتهم بالحرب، فيتضرر المسلمون، وتتعطل رسالة الإسلام الذي يسعى لتحقيق السلام، لأن الإسلام من بين مقاصده في تحصيل القوة سدٌّ لأبواب المفاسد والحروب، وحفظ للأمن، وجلب مصالح ومنافع العباد.
أما العنف فهو سلوك معنوي أو مادي ترافقه قوة وإلحاق أذى بالآخرين، ويتمثل في الاستخدام القسري، ضد شخص أو مجتمعات بقصد إذلالها وإقصائها، ويعتبر العنف من أهم القضايا التي تواجه المجتمع باعتباره آفة سلبية تؤدي إلى نتائج وخيمة.
فالإسلام دين الفطرة، والفطرة السوية جبلة على نبذ العنف بأشكاله وأنوعه، وممن يصدر سواء مسلم أو غيره، فهو عمل سلبي بطبيعته وسلوك شائع نسبيًا بين البشر حيث يحدث في جميع أنحاء العالم.
والفكر الإسلامي المعتدل الذي منهله كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ينبذ العنف والإرهاب بكل صوره وأشكاله ومصادره، وهذا منثور في مؤلفات الفقهاء المعتدلين أو أدبيات المفكرين الوسطيين، ويتبرؤون للإسلام وعلمائه من هذا التشويه الذي يلحقه أعداء الإسلام بالإسلام وعلمائه ودعاته.

ومن هذا الفهم للإسلام جاء في ميثاق جمعية الإحياء والتجديد محور “المبادئ والمنطلقات” في فقرة (12) نبذ التعصب ورفض الإقصاء:
“وذلك بنشر ثقافة الحوار والتسامح وحق الاختلاف، والاعتراف بالتنوع، والدعوة إلى التعاون على الوصول إلى الحقيقة في ظل الحب في الله، وترجيح مصلحة الوطن وعمارته، بعيدًا عن داعية التشكيك، والاحتكام للظنون والتعصب.
قال تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم) (الأنفال 46)، وعن أبي هريرة، أَنّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَنَافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ الله إِخْوَانًا) رواه مسلم.
إن نبذ ثقافة التعصب، والتنازع، تجفف منابع التباغض، وتدفع مبررات القطيعة والإقصاء، والإنكار المتبادل، وترسخ قواعد التواصل الحيّ المثمر الذي يحقق الاستقرار ويضمن الوحدة بين أبناء الوطن الواحد.”
ومن هذا الفهم الوسطي المعتدل، لا بد أن يكون لدينا قواعد وسياسات تنظيمية واضحة للحد من العنف، وآليات التعامل معه، وبرامج توعوية وتربوية يتظافر فيها الجميع على مستوى مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني تسهم في زيادة الوعي لدى الناس، وتغرس القيم الإسلامية والوطنية من التسامح ونبذ العنف والاحترام والتواصل الإيجابي، والفعال مع الآخرين، وتنظيم برامج من شأنها تعزيز البيئة الصالحة وجعلها أكثر إيجابية.
وللعنف أنواع وممارسات كما صنفها علماء علم الاجتماع وكلها منبوذة منها:
– العنف المادي: هو استخدام القوة الجسدية بشكل متعمد اتجاه الآخرين بهدف إيذائهم وإلحاق الضرر بهم سواء بالضرب أو القتل.
– العنف المعنوي: يتجلى في منع الفرد من ممارسة حقه بحرمانه من التعبير عن أفكاره إضافة إلى استخدام عبارات التحقير والقدح والشتم والأقصاء.
– العنف الأسري: يقع نتيجة تدهور العلاقات الأسرية داخل البيت خصوصا بين الأزواج مما يؤثر بشكل سلبي في الأبناء.
– العنف المدرسي: وهو حالة من عدم الاستقرار تظهر بوضوح بين التلاميذ أنفسهم أو بين المعلمين أنفسهم أو بين التلميذ والأستاذ.
– العنف الجماعي: ويتمثل في العنف السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
– العنف الفكري والديني: ويتمثل في إلزام الناس برأي واحد بالرغم من وجود آراء أخرى مخالفة ومعتبرة، وينتج عن ذلك تضليل وتفسيق وتكفير المخالفين، وقد يصل “باسم الدين” إلى التهديد والقتل واستباحة ممتلكاتهم، والدين منه براء.
– عنف الدولة يقول الكاتب حسام أبوحامد في مقاله (إرهاب الدولة ودولة الإرهاب): “أن تمارس دولة الإرهاب الاستعمال غير الشرعي للقوة عنفا منظما متصلا بقصد خلق حالة من الرعب، والتهديد العام، موجّها ضد مواطنيها، على أساس التمييز السياسي، أو الاجتماعي، أو العرقي، أو الديني، أو الثقافي، أو بحق المواطنين في أراضٍ قامت باحتلالها أو ضمّها، لتحقيق أهداف سياسية.”
وهذا ما تؤكده الكاتبة الإنجليزية الدكتورة جاكلين روس –التحليل النفسي- “على أن دولة الحق لا تتمثل في تلك الصورة القانونية المجردة فحسب، بل تتجسد ككيان قائم بدوره في عقلنة ممارسة السلطة من داخل المجتمع، ويسعى لتوفير الحاجات الفردية وضمان الحريات العامة وحفظ الكرامة الإنسانية ضد كل أشكال العنف والقوة والتخويف. وسلطة دولة الحق تقوم على أسس ومرتكزات ثلاثة هي: القانون والحق وفصل السلطات. وهي مرتكزات تسعى جميعها لخدمة الأفراد بتوفير الأمن لهم وحماية ممتلكاتهم وضمان حريتهم واستقراره”.
وهذا يدل على أن مشكلة العنف ليست في الدين ولا في القرآن، وإنما في النفوس التي شذّت عن الفطرة السليمة وعن دين الله وهدي نبيه الكريم، فأين هؤلاء وسلوكهم مما أوصى به عليه الصلاة والسلام المسلمين في خطبة حجة الوداع يوم النحر في مِنى، قائلاً “إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلّغت؟” اللهم فاشهد.
ينبغي لجميع المؤسسات الرسمية أو التطوعية اتخاذ مجموعة من التدابير الهادفة إلى استئصال الشر من النفس البشرية، التي تؤدي إلى إيقاظ الشعور الديني، الذي يعد الضابط الداخلي لدى كل فرد، لضبط سلوكه وفق الأنظمة المعمول بها، ويحول دون العدوان والعنف الذي في أساسه اعتداء على حقوق الآخرين، وتتمثل أهم التدابير الإسلامية التي ينبغي لمؤسسات المجتمع ترسيخها، وتربية أفراد المجتمع عليها في ترسيخ العقيدة الإيمانية، كونها الأساس الأول لمنع السلوكيات الإجرامية، لقد ربط القرآن الكريم بين الإيمان والأمن في العديد من آياته.
فالمجتمع التي تسود الرحمة والرفق واللطف، ينبذ العنف ويتعامل أفراده فيما بينهم بالحسنى، فالمُحسن يأخذ بيد المسيء حتى يبتعد عن العنف والإساءة، ويرتقي بأخلاقه حتى يسود الفضل والخير في المجتمع، فالعنف ما دخل بشيء إلا شانه، وما دخل الرفق بشيء إلا زانه، فقوة الإنسان تظهر من خلال أخلاقه وتعامله مع من حوله، ولا يتقدم مجتمع أفراده يُمارسون العنف فيما بينهم ومع من حولهم.

Related Articles

Back to top button