اجتماعيةعاممقالاتمقالات تربوية

في خضم الصراع المحتدم متى يفقد الإنسان إنسانيّته؟

د. عطية عدلان

في خضم الأحداث وما يجري على الأرض من تقلبات؛ يفقد كثير من الناس إنسانيتهم، ويخرجون عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها، ويغادرون الحالة الإنسانية التي خلقهم الله تبارك وتعالى عليها إلى حالة حيوانية وربما أحطّ، ويهجرون الإنسان الذي كان إلى الحضيض من عالم الحيوان؛ لا لشيء إلا لأنّهم قرّروا أن ينسلخوا من كرامتهم ويعطلوا مواهبهم التي كرّمهم الله بها ورفعهم بها عن مراتب خلقه، هكذا تحدثنا آياتٌ متفرقة من كتاب الله تعالى؛ فللنظر ماذا جرى ويجري.

الأصل الإنسانيّ في كتاب الله

الأصل أنّ الإنسان – جنس الإنسان – مخلوق كرّمه الله وفضله على كثير من خلقه: ‌(وَلَقَدْ ‌كَرَّمْنا ‌بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)، هذا هو الأصل، وهذا الذي أجملته سورة الإسراء جاء مفصلًا بعض التفصيل في سورة البقرة التي عُنيتْ بمسألة خلافة الإنسان في الأرض، فهذا الإنسان الخليفة خلق الله له ما في الأرض جميعًا وسخره له: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، واستخلفه من بين خلقه في الأرض، فخصّه بشرف كانت تتمناه الملائكة: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي ‌جاعِلٌ ‌فِي ‌الْأَرْضِ ‌خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)، وعلمه الأسماء ووهبة القدرة على وضع الأسماء للأشياء، وهو ما لم يعطه للملائكة: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)، وأسجد له الملائكة سجود تكريم له وتعظيم لقدرة الله في خلقه واعتراف بتأهله للوظيفة التي ناطها الله به خاصّة: (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيسَ).

ومن صور التكريم والتفضيل أنّ الله تعالى خلقه في أقوم صورة وأعدلها ظاهرًا وباطنًا ووهب له آلات الوعي والإدراك والتعلم: (‌وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ ‌فَسَوَّاكَ ‌فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ)، (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ‌السَّمْعَ ‌وَالْأَبْصارَ ‌وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ ‌السَّمْعَ ‌وَالْأَبْصارَ ‌وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ)، وكان من صور التكريم والتفضيل ذلك الستر والحياء والعفاف الذي غرسه الله تعالى في فطرة الإنسان: (‌يَا ‌بَنِي ‌آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)، وهذا بلا شكّ جزء من الفطرة التي تعدُّ مما فضل الله به الإنسان: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ ‌اللَّهِ ‌الَّتِي ‌فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

وهل يفقد الإنسان إنسانيّته؟

لكنّ الإنسان الذي كرّمه الله تعالى وفضله وأعطاه من المواهب ما لم يعط كثيرًا من خلقه أبى إلا أن يهبط بنفسه، ويتخلى عن كرامته، أبى في خضم الصراع المحتدم بين الحقّ والباطل إلا أن يفقد إنسانيّته، فلا ترى له في وحشيّته مثيلًا بين السباع الضارية التي إن توحشت وافترست فإنّما تفعل ذلك بحكم الضرورة، وبقدر ما تنفي به عن نفسها الفناء، أمّا هؤلاء فيتلذذون بالتوحش والافتراس، ولا ترى له في فحشه وتدنسه وفسوقه ومروقه بين أدنى البهائم مثيلّا؛ ومن ثمّ أسقطه الله بعدله عن المنزلة التي أنزله فيها بفضله..
فانظر: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ، وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)).
فهؤلاء أضلُّ من الأنعام؛ لأنّ الله وهبهم آلات الفهم والإدراك التي ليست للأنعام، قلوب وأعين وآذان مؤهلة للإدراك ومُرَتَّبة بما يجعلها قادرة على تكوين القناعات والمفاهيم، ومع ذلك استووا مع الأنعام التي لا ترتقي آلاتها إلا للمستوى الذي يحقق لها حاجاتها الحيوية، وهذا الذي انسلخ من آيات الله الكونية والقرآنية كما ينسلخ الحيّ من جلده، ومرق منها وصار باختياره عاريًا عنها، فلا آيات الكون الساحرة تؤثر في وجدانه، ولا آيات القرآن الباهرة تؤثر في قلبه أو ضميره، فصار بين الناس بهذه الهيئة من الشذوذ والنشاز: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)، فإذا رأيت كائنًا يدعو للإلحاد بجدّ واجتهاد، ويجدّف فوق حصباء يظنّها ماء، ويلهث في تجديفه كعاهرة بلهاء؛ فثق أنّه كلب يبدو في صورة إنسان، وكذلك إذا رأيت رجلا يمارس العهر السياسيّ فيصف المقاومة للغازي بالإرهاب والهمجية ويخلع على المعتدي الغاشم وصف التحضر والمدنية.

سورة التين وخلاصة القصة

وربما أجملت سورة التين القصّة بتمامها، في آيات قصار: (‌وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)، فها هنا يقسم الحقّ تبارك وتعالى بهذه الأماكن التي تواترت فيها رسالات الله الأخيرة؛ لترفع الإنسان من حيوانيّته التي سقط في حفرتها، يقسم بالشام والأرض المباركة بيت المقدس، تلك الأرض التي اشتهرت بالتين والزيتون، وبجبل الطور في سيناء الذي شهد نزول التوراة والألواح على نبيّ الله موسى عليه السلام، وبمكة البلد الأمين الذي شهد بزوغ شمس الإسلام، يقسم بها على حقيقة كبيرة وخطيرة، مفادها بإيجاز أنّ الله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن صورة ظاهرًا وباطنًا، وفطره على أقوم وضع ظاهرًا وباطنًا، فلمّا انحرف عن منهج الله ردّه الله إلى أسفل سافلين؛ فصار في مرتبة أحطّ من مرتبة الأنعام والبهائم، إلّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات؛ فهؤلاء بقوا على ما فطرهم الله تبارك وتعالى عليه؛ بسبب ثباتهم على المنهج الربّاني، فلهم أجر غير ممنون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى